جدلية عمرها أكثر من خمسة قرون، عمرها هو عمر مأساة أهلها الذين نُصروا ثم قتل بعضهم وهُجر الآخرون. جدلية لا يكفّ طرفاها عن استدعاء ما يدعم موقف كل منهما في زعمه أملاً في الانتصار في معركة لا فائز أبدًا فيها. طرفان خاسران حتى وإن اقتنص أحدهما نصرًا على الورق في قضيتهما التاريخية.. قضية “الأندلس.. فتح أم احتلال”.
جدلية ما حدث عام 711م على يد طارق بن زياد، وهل هو فتح أم احتلال، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما حدث عام 1492 وما بعده وحتى قرار طرد الموريسكيين في بدايات القرن السابع عشر، هي قضية ثنائية، إما فتح/ احتلال أو احتلال/ استرداد، تتردد ثنائية فتح/ احتلال في أدبيات العرب والمسلمين الذين كتبوا عن تاريخ الأندلس، بل ولا زالت حتى اليوم هي الخطاب الأكثر شهرة على ألسنة المتعاطفين مع القضية الأندلسية، بينما يرفع الإسبان – أغلبهم – وغيرهم من غير المسلمين بل وبعض المسلمين شعارَ الاحتلال العربي للأندلس ليأتي مقرونًا بعدها بحروب الاسترداد التي خاضوها – من وجهة نظرهم – لاسترداد أراضيهم المحتلة.
والحقيقة أنه رغم ركاكة الطرح الإسباني ومنهجيته في نعت ما حدث في أوائل القرن الثامن الميلادي بالاحتلال، إلا أن غالبية الأطروحات المناظرة التي ساقها العرب أو المسلمون دائمًا ما يشوبها إما ضعف في الحجة أو خلل في المنهجية أو تخبط في الطرح أملاً في إرضاء الفريقين. يظهر ذلك جليًا حين يتم مخاطبة غير المسلم بأدلة من الشرع والعقيدة الإسلامية أو يتم إضافة بعض الأحداث غير الحقيقية أو دحض الأحداث الحقيقية لدعم وجهة نظر ما.
لكن الخلل الأكبر يتجلى حين يفتقد الطرح إلى أبجدياته وتظهر منهجية البحث قاصرة عن التعامل مع القضية بصورة تعالج كل الثغرات وتغطي كامل نقاط البحث. لذلك يبدو أن التبريرات التي يسوقها البعض على أن ما حدث ليس احتلالاً وإنما فتح غير مقنعة، أو ربما مقنعة لفئة دون غيرها، ذلك أنها صيغة جامدة لا مرونة فيها، وبالرغم من وجاهة بعضها إلا أنها تفتقد إلى بعض الحيوية التي تجعلها مناسبة لتبنيها من قبل الفريقين.
“جاء المسلمون لإنقاذ أهل الأندلس – حينها – من الظلم الواقع عليهم من القوط”، هذا هو الطرح الأكثر شهرة وتداولاً بين المؤرخين لكنه الطرح الأكثر سهولة للرد عليه من قبل رافعي رايات احتلال/ استرداد، وحجة هؤلاء أن من جاء لينقذ شعبًا مظلومًا لا ينبغي له أن يبقى ليحكم بل أن يرفع الظلم ثم يمضي من حيث جاء. يرد آخرون بأن من بقي من المسلمين لا يتجاوز بضعة وعشرين ألفًا، أي أن المسلمين كانوا أقلية في التركيبة السكانية لأهل الأندلس حينها وأن أفواجًا من السكان الأصليين قد دخلوا الإسلام طوعًا، لكن الفريق المضاد يدلل على زيف هذا الكلام بسرد قصة تحول كاتدرائية قرطبة على عهد القوطيين إلى جامع في عهد الأمويين. عشرات من الأطروحات تتدثر بثوب المثالية فتفقد مصداقيتها وعفويتها يقابلها عشرات من الأطروحات المغرقة في السواد المغلف بالتضليل. وبين أولئك وهؤلاء تغيب الحقيقة.
هل كان فتح الأندلس فتحًا حقًا أم احتلالاً؟
سؤال لا يمكن الرد عليه إلا إذا اقترن بمعلومتين إضافيتين، من هو السائل ولماذا يسأل هذا السؤال؟
تبدو المعلومة الأولى أكثر سهولة في الحصول عليها، فإما أن يكون من طرح هذا السؤال هو فريق الفتح المؤمن بإسلام الأندلس أو يكون من تساءل من فريق الاحتلال القانع بإسبانيتها، ذلك الفريق الذي يضم بين أعضائه مسلمين وإسبانًا وجب مخاطبة كل منهم بما يتناسب مع قناعاته وأفكاره وثقافته. تبدو المسألة أكثر صعوبة للإجابة عن السؤال الثاني، ما الغرض من تحديد ماهية هذا الحدث التاريخي؟ هل هو فتح أم احتلال؟
لو كنت إسبانيًا متشددًا فستبدو محاولة نعت ما حدث بالاحتلال مبررًا كافيًا لشن ما يسمى بحروب الاسترداد. هؤلاء العرب جاؤوا محتلين، حاربوا وانتصروا ثم حُوربوا وهُزموا وعادت الأرض لأصحابها.
على الجانب الآخر يبدو أن مسلمي فريق الاحتلال يدعمون هذه الفكرة حتى لا يصير هناك حاجة لطرح فكرة العودة، لو كان فتحًا إسلاميًا لكانت فكرة العودة واستعادة الأرض يومًا ما حلمًا مشروعًا للمسلمين، لذلك فاجتثاث الفكرة من جذورها هو الأنسب من وجهة نظرهم.
حتى تكتمل الصورة من الضروري توضيح الفارق بين الفتح والاحتلال والغزو؛ فالغزو هو القصد والطلب والسير إلى قتال الأعداء وهي لفظة محايدة لا تحمل في طياتها خيرًا أو شرًا، هذا الغزو يعقبه إما فتح (خير) أو احتلال (شر)، هكذا يصبح واضحًا لماذا يحاول الإسبان رفض كلمة “فتح” وإصرار الفريق الآخر عليها بالرغم من أن هذه الكلمة غير موجودة إلا في القواميس الإسلامية. وعليه فمحاولة إقناع الإسبان بكون ما حدث فتحًا يأتي على رأس الأخطاء الجوهرية في دحض حجج الإسبان التي يسوقونها مبررًا لحروب الاسترداد، والأجدر أن يكون أساس الحوار هو أرضية مشتركة من القناعات وأهمها هذه التعريفات.
لذلك فالأفضل التسليم بأن ما حدث كان غزوًا بمفهوم هذا العصر وأن القاعدة حينها أن للجيوش الكلمة العليا، تغير على جيرانها وتستولي على أراضيهم، فإما أن يقوم سكان هذه الأراضي بثورات لاحقة إذا ما جاء هؤلاء الغزاة بظلم وإما أن يتعايشوا معهم إذا ما حل العدل والرفاهية. وعليه فإن ما أتاه المسلمون حينها من غزو للأندلس لا غبار عليه أبدًا بمقاييس هذا الزمان وبعيدًا عن البعد العقائدي، بل إن تكيف الشعب الأندلسي مع المسلمين وانصهارهم سويًا في بوتقة واحدة لهو أفضل رد يرد به على من يوحي بأن ما حدث كان احتلالاً بمفهومه السيء.
الأكثر من ذلك أن الإسبان أنفسهم، وفي نفس عام تسلمهم لآخر معاقل المسلمين في الأندلس 1492، قد انطلقوا بسفنهم يجوبون العالم من أجل غزو بقاع جديدة لم تطأها أقدامهم من قبل، ولأن كلمة احتلال لها سمعة سيئة ولأنها تستوجب منح من اُحتل حق الاسترداد لاحقًا، ولأن كلمة فتح هي كلمة إسلامية بحتة، فقد استطاعوا بعبقرية لافتة للأنظار أن يصوغوا مصطلحًا جديدًا ويسموا ما فعلوه في أمريكا “اكتشاف العالم الجديد” زاعمين بتسميتهم هذه أن هذا العالم كان أرضًا خاوية تم استحداثها قبيل اكتشافها، متغاضين بذلك عن حقيقة أن هذه الأرض لها سكانها وحيواتهم التي أغاروا عليها ونسفوها تمامًا كما تقول قواعد الاحتلال المثالية.
هذا إذن هو الاحتلال الحقيقي الذي يستوجب مقاومة واستردادًا، هذه هي مجازر الإبادة الجماعية التي تعرض لها سكان هذا العالم – المدعو زورًا جديدًا – من هنود حمر وغيرهم، بل إن هذه المجازر لم تختلف في تفاصيلها كثيرًا عما حدث على يد نفس المحتل الإسباني لأهل الأندلس المسلمين “الموريسكيين” منذ سلم بنو الأحمر غرناطة وحتى قرار الطرد الشهير بعدها بأكثر من مائة عام، تلك الجرائم التي ربما لو لم يرتكبها الإسبان لكان من الممكن تقبل حججهم وأطروحاتهم عن استردادهم لأرض يدّعون أنها أرضهم، في الوقت الذي احتلوا فيه البرتغال دون وجه حق ودون مراعاة لحقوق البرتغاليين حينها في أرضهم، بل في الوقت الذي احتلت فيه الدانمارك السويد عام 1520 فيما عرف بحمام دم ستوكهولم ثم لم يلبث أهل السويد المظلومون أن حرروا أنفسهم ثم انطلقوا في أوروبا لغزو نصف أراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة ومعها الدانمارك نفسها فيما عرف بحرب الثلاثين عاما! هذه هي أوروبا إذن حينها، لا حقوق للشعوب ولا استرداد وإنما غزوات حربية بهدف السيطرة والاحتلال، بل والاجتثاث لاحقًا، كما كان يهدف الإسبان الكاثوليك كمثال مع البروتستانت.
يقول الإسبان أن قرار الطرد كان ضروريًا، فالمسلمون رافضون تمامًا للانخراط في الحياة الاجتماعية الجديدة والانصهار في بوتقة المجتمع الإسباني عوضًا عن نظيره الأندلسي، يعزو الإسبان ذلك لاختلاف العقيدة التي لم تسمح بأي محاولات للتعايش بينما يظهر زيف هذه الادعاءات بمجرد النظر لقرار التنصير المبكر جدًا والصادر عن الملكة إيزابيلا بعد عقد واحد من سقوط غرناطة، بل ويتأكد ضعف هذه الحجة إذا ما تم مقارنة ذلك بما فعله شارل الخامس في صلح أوغسبورغ عام 1555م حين أعطى للأمراء الألمان حرية اختيار ديانة ممالكهم وأعطى اللوثريين حق ممارسة طقوسهم الدينية. وبينما يبرر الإسبان طرد المسلمين بكونه مجرد رد على احتلالهم الأندلس قبل ثمانية قرون، يبرز تساؤل آخر يحتاج إلى إجابة وهو: لماذا طرد الإسبان اليهود أيضًا؟!
الأمر يختلف تمامًا إذا ما نوقش من منظور المسلم المؤيد لاسترداد إسبانيا للأندلس، فهنا تعود كلمة الفتح للظهور في قواميس اللغة وتصبح أحد الأسس التي يمكن للنقاش أن يُبنى عليها. هذا الفتح الذي كان الوسيلة الوحيدة لنشر الإسلام في العصور السالفة، إذ لم يكن ممكنًا حينها الدعوة للدين في الدول غير المسلمة دون أن يُمس الدعاة بأذى.
لهذا كان الفتح (الغزو) في أغلب الأحوال هو الخيار المتاح بعد عرض الخيارين الآخرين (الإسلام أو الجزية) على هذه الدول. لم يكن سبب الفتوحات الوحيد هو الدعوة وإنما كان هناك حاجة إلى حماية حدود الدولة الإسلامية من الإغارة عليها، وبالرغم من أن الأندلس لم تمتلك حدودًا برية مع أراضي الدولة الإسلامية (الأموية)، وبالرغم من خطورة الإقدام على فتح هذه البلاد الوعرة التي تجاور أراضي الفرنجة ويفصلها عن آخر أراضي الإسلام بحرٌ إلا أن بريق نشر الدعوة كان محفزًا لطارق بن زياد وقائده موسى بن نصير للسعي نحو تحقيق هذا الهدف.
إذن هل كان هذا فتحًا بمقاييس الإسلام؟
يبدو أن الإجابة هي نعم، فالمسلمون انتهجوا منهج الإسلام في هذا الفتح بل وبعد الفتح، فلم يفسدوا في الأرض أو يظلموا سكان الأندلس الأصليين، بل على العكس تمامًا فقد أخرجوهم من غياهب الظلم الذي لاقوه من القوط إلى رحابة الإسلام، كانت مبادئ العدل هي العامل الأساسي في بناء الحضارة الأندلسية فهذا موسى بن ميمون القرطبي الطبيب اليهودي الشهير ينمو في هذه البيئة السمحة التي ينعتها البعض بالاحتلال، حتى قال حاييم الزعفراني اليهودي في كتابه ألف سنة من حياة اليهود في المغرب: “لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء، وأكثر اطمئنانًا، كما لم تعرفها في مكان آخر”.
لماذا إذن يعارض بعض المسلمين هذا الطرح؟ لماذا يظهرون تعاطفهم الصارخ مع الإسبان؟
بل لماذا يعقدون المقارنات الدائمة بين ما فعلته إسبانيا منذ خمسة قرون وما يفعله الفلسطينيون اليوم من مقاومة بغية استرداد أرضهم؟ فإما أن الإسبان محقون في حروبهم لاسترداد الأندلس وإما لا حقَّ للفلسطينيين اليوم في أرضهم، فإسرائيل اليوم في احتلالها لفلسطين ما هي إلا العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا في غزوهم للأندلس كما يحلو لهم أن يزعموا!
الحقيقة أن السبب – ربما المنطقي – الوحيد لذلك هو الخوف من دعوات العودة والاسترداد الإسلامية، دعوات الجهاد ونعت إسبانيا بالأراضي المحتلة وغيرها هو ما يشغل بال هؤلاء المتعاطفين مع أبشع تصفية عرقية في التاريخ ويقض مضاجعهم خوفًا من حرب استرداد إسلامية، يهابون مجرد التفكير في عودة الإسلام إلى إسبانيا حاكمًا لكنهم يتجاهلون أنهم بهذا يفرطون في حق شعب أُبيد وهُجّر وسُلبت ممتلكاته ولم ينل حتى كلمة اعتذار عما حل به، يتجاهلون أن الإسلام سوف يعود فاتحًا مرة أخرى حتى ولو أبوا. سيعود دون سيف كما انتشر أول مرة. سيعود ليفتح هذه البلاد فكريًا تمامًا كما فعل منذ قرون، سيعود فاتحًا لا محتلاً.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست