تمثل هذه الأضابير الأربع المتربعة على مساحة 1572 صفحة، الوميضَ الفكري للإمام ابن حزم الأندلسي وفلسفته في الدِّين والحب والأخلاق والتاريخ والاجتماع البشري، وغير ذلك من ميادين الفلسفة التي لم يعطِ لها وقتًا كافيًا للتأليف والشرح؛ إذ كان مشغولًا بمعاركه الفقهية والعقدية والأصولية مع فقهاء قرطبة المالكيين، وأنا سأنشر من خلال الوسم الآنف عنوان كل رسالة، وعَرْضًا لطيفًا لمحتواها في تغريدات متفرقة، وفي ما يلي عناوين كل الرسائل حسب الترتيب الذي وضعه المحقق الدكتور إحسان عباس:
1- المجلد الأول (فيه 486 صفحة)
طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف، رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق، رسالة في الغِناء، رسالة في النفس.
2- المجلد الثاني (فيه 358 صفحة)
رسالة في تاريخ الخلفاء، رسالة في أمهات الخلفاء، رسالة في الفتوحات، رسالة في خلفاء المشرق، رسالة في فضل الأندلس وأهلها.
3- المجلد الثالث (فيه 291 صفحة)
رسالة الرد على ابن النغريلة اليهودي، رسالة جواب عن سؤالي تعنيف، رسالة في الرد على الهاتف من بعد، رسالة التوقيف على شارع النجاة، رسالة التلخيص لوجوه التخليص، رسالة البيان عن حقيقة الإيمان، رسالة في الإمامة، رسالة في الأرواح.
4- المجلد الرابع (فيه 437 صفحة)
رسالة في مراتب العلوم، رسالة في المنطق، رسالة في ألم الموت، رسالة في الرد على الفيلسوف الكِندي، رسالة في تفسير ألفاظ المتكلمين.
الرسالة الأولى: طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف
أول ما أتكلم عنه من رسائل ابن حزم الأندلسي، كتبها وهو ابن 33 سنة تقريبًا، وأراد من خلالها إبداء مجمل آرائه في العلاقات العاطفية، بدءًا بتقديم مفاهيم عن الحب، إلى الحديث عن تجاربه ومغامراته وتجارب مَن يعرفهم مِن الأصدقاء والأمراء والفقهاء والقضاة وغيرهم، وتناول في رسالته هذه كل ما يتعلق بعاطفة المحبة من أسباب ومفسدات، فعقد فصولًا من بينها: علامات الحب، من أحب بالوصف، الحب من نظرة واحدة، من أحب صفة واحدة، التعريض بالقول، الإشارة بالعين، المراسلة، السفير، طي السر، العذل، الوفاء، الغدر، الهجر، القنوع، الضَّنى، السُّلُوُّ، وختمها بفصل في التعفف. ومنهجُه في بداية كل فصل شرح العنوان بأسلوب فلسفي، ثم سرد ما لديه من أخبار وقصص وأشعار مناسبة للمَقام، وإبداء رأيه الخاص في ذلك، وهذه الرسالة حُققت عشرات المرات، وتُرجمت إلى عدة لغات، واهتم بها الغربيون اهتمامًا كبيرًا، وقد ألفها في وقت كان الوضع الأمني في الأندلس غير مستقر، خاصة في مدينة قرطبة، إذ تعرض ابن حزم وبعض أصحابه للسجن عدة أشهر بسبب آرائه السياسية المعارضة لنظام حكم الطوائف، فلم يمنعه ذلك من التفرغ قليلًا لتسجيل آرائه وأفكاره في الحب.
الرسالة الثانية: مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق
«إذا حققتَ مدة الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل الزمانين فقط، وأما ما مضى وما لم يأتِ بعدُ فمعدومان كما لم يكن»، بهذا الأسلوب الحِكَميِّ يقوم ابن حزم مَقام الحكيم في سن شيخوخته بعد أن جرب الحياة بتناقصاتها؛ فذاق مرارة السجن والإقصاء، ونال لذة الوزارة والمجد، وسبر أغوار النفوس بمجالساته المختلفة لعامة الناس، ونُخَبهم من وزراء وفقهاء وقضاة وشعراء ويهود ومسيحيين ومعتزلة وفلاسفة، ومن مدَّاحين ومغنين، ومن سائر الأصناف، وطبقات المجتمع الأندلسي آنذاك، فكتب هذه الرسالة على هيئة تغريدات بعضها مختصر جدًا، وبعضها متوسط، أو مطول، وسجَّل آراءه في فلسفة الأخلاق، وكتب فصولًا قيمة جدًا في: طرح المبالاة بكلام الناس، فضل العلم، الصداقة والأخوة، النصيحة، الطمع، الصبر، التلون، العقل، السخف، التزهد، الانسجام الاجتماعي، العُجب، معاملة العدو، التباكي، حب الشهرة، ترك المغاضبة والمغالبة، وغيرها من الفصول التي هي عصارة تجاربه، وهذه الرسالة تتسم بالهدوء والرزانة، ولا شك أنه ألَّفها في شيخوخته عكس «طوق الحمامة» التي كتبها في شبيبته حين كان مولعًا بالغراميات.
الرسالة الثالثة: الغناء المُلهِي أمباح هو أم محظور؟
هذه الرسالة هي بضع أوراق كتبها ابن حزم جوابًا على من سأله عن الغناء والموسيقى لكثرة الفتاوي من الفقهاء في تحريمهما، فيسرد ابن حزم كل الأدلة التي ارتكز عليها المانعون من نصوص حديثية وقرآنية، ثم يبين رأيه في كل دليل منها، وأنها مَرويَّات ضعيفة أو مكذوبة أو لا حجة فيها مطلقًا لتحريم الغناء والموسيقى، ويصرح أنه لا يمكن منع شيء إلا ببرهان يقيني لا مدخل للشك فيه، وبذلك يُخالف ابن حزم الأندلسي غالب من تكلم في هذه المسألة مخالفة كُلية وصريحة، بما في ذلك إبطاله للحديث المَروِي في «صحيح البخاري»، وهو الحديث الذي اعتمد عليه كل من قال بمنع الموسيقى والغناء.
الرسالة الرابعة: معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها
«قالت: يا أيتها النفس العارفةُ بغيرها، الجاهلةُ بِذاتها: فهل تعرفين مَحَلَّكِ ومن أين أنتِ، ومن أين تتكلمين، وكيف تُحَرِّكين هذه الأعضاء المَصونةَ إذا حرَّكتِها، الساكنةَ إذا تركتِها؟»، أظنه من أول وأعظم ما كُتِب في مناجاة النفس الإنسانية لِذاتها بأسلوب فلسفي أدبي وطرحٍ جديد لم يُسبَق إليه صديقُنا ابن حزم الأندلسي حينَها، فقد وضع هذه الرسالة الصغيرة في بيان معجزة الذات البشرية وتناقضاتها، وكيف أنها تحيط علمًا بكل الظواهر الفيزيائية والكونية حتى توشك على توهُّم ذات البارئ الأول، ولكنها لا تدرك من ذاتها هي أيَّ شيء، ولا كيف ارتبطت بهذا الجسد، ولا أين كانت، أو كيف عَلِمت ما عَلِمت، وقد بَنيتُ على هذه الرسالة مناجاةَ الزمن لنفسه في روايتِي متاهة قرطبة، إذ جعلتُ منه شخصيةً روائيةً مستقلةً، وأجريتُ على لسانه حوارًا يخاطب فيه ذاتَه ويُسائِل فيه نفسَه عن ماهيَّتِـه، ليُدرك أنه مع إحاطته بسائر الخليقة وحكمه عليهم جميعًا؛ إلا أنه لا يعرف من حقيقته أي شيء ذي بال، وهل نحن نعرف حقيقة الزمن فعلًا؟!
وهذا مجمل ما يمكن تلخيصه من الرسائل المثبتة بالمجلد الأول من رسائل ابن حزم، وفق العمل الذي جمعه الدكتور إحسان عباس.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست