تساءل د. زكي نجيب محمود يومًا عن معنى قوله تعالى «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون»، قائلًا: إن العبادةَ المفروضةَ على الإنسان هي خمسُ صلوات في اليوم والليلة، أي بمعدل ساعة تقريبًا، فهل خلق اللهُ الإنسانَ ليعبده ساعةً من الأربع وعشرين ساعة، وبقية ساعات اليوم لا يعبد فيها ربَّه؟ هل غاية الإنسان من الخلق والوجود في هذه الدنيا أن يكون مفهوم العبادة فيها ساعةً من نهار؟
ثم رجّح – رحمه الله – أن العبادة لا يمكن أن تكون مقتصرةً فقط على الشعائر الدينية مهما عظمت واتسع زمن أدائها، وأن هذا التفسير القاصر للعبادة لا يمكن أن يكون صحيحًا.
ولبيان المفهوم القاصر للعبادة – وإن ادعى المسلمون غير ذلك في تصوراتهم عن العبادة – قائلين إن العبادات في الإسلام أشمل وأعمّ وأوسع من تلك المعاني القاصرة، أقول: دعك من هذا كله، دعك هذه الادعاءات التي ليست إلا كلامًا في الهواء، فحين تتفحص العقلية الإسلامية المسيطر عليها عدد مرات الذكر، ومن سبح وحمد وهلل ثلاث مرات بُني له بيتٌ في الجنة، وحين تجد الفقهاء دومًا وعلى طول الخط يقدمون العلوم الشرعية على ما سواها من العلوم، واعتبارها أفضل العلوم وأشرفها. حين تجد التركيز دائمًا على الصلاة في حين أن الهدف الأسمى والأعلى من الصلاة هو تطبيق هذه الصلاة في الحياة على صورة أخلاق ومعاملات، لذلك قال الله «وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» ومع ذلك تجد المصلين ولا تأثير يُذكر – أو لا يُذكر – لهذه الصلاة في حياتهم، ومع هذا يستمر الإلحاح والتكرار – وتكرار التكرار – على حركات الصلاة وآدائها واختلاف الفقهاء في كيفية وضع اليدين في الصلاة.
حين تجد بعض الفقهاء ينادون الآن بعقوبة المُفطر في نهار رمضان، المجاهِر بفطره، مع أن الغرض من الصوم هو التقوى، فتركوا التقوى والعمل عليها وصَرف كل الجهد إليها وتذكير الناس بها، تركوا زرع هذا المعنى في القلوب والعقول، وتسمروا وتمسمروا في ألا يجهر أحدٌ بفطره.
لذلك سخر د. حسن الترابي من هؤلاء الذين يقرأون الفاتحة على الأموات، فالفاتحة لا يوجد بها دعاء واحد للميت، فما العبرة من قراءتها على الأموات؟ لا ندري.
كذلك قراءة الفاتحة أيضًا في الأفراح والأعراس، ما علاقة الفاتحة بالزواج؟ لا ندري. وهكذا أصبحت العبادة ليست سوى شعائر صماء بلهاء لا ندري ما نفعل ولا ما نقول.
أقول: لو نظرت إلى العقل الإسلامي في حياتِه وواقعِه لتتأمل هذه المظاهر وغيرَها الكثير التي لا أحصيها عددًا ولا أريد التركيز عليها الآن.. حين تقرأ كتبَهم، وتسمع كلامَهم، وتعيش واقعَهم، ستعلم أن مفهوم العبادة الشامل هو سراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً حتى إذا ما بحث عنه لم يجده شيئًا.
وربما يتجلى هذا المعنى في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه وصححه الألباني عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله قال: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ».
ذلك أنني لم أقف على قولٍ أبدًا – لا للأولين ولا للآخرين – يقول إن قراءة كتاب في الرياضيات أو في الفيزياء أو في الكيمياء أو في الهندسة أو في الطب أو في التجارة أو في الأدب أو في التاريخ، لم أقف أبدًا على قول لفقيه يساوي فيه بين قراءة القرآن وقراءة هذه الكتب، جاعلًا ثواب قراءة القرآن معادلًا لثواب قراءة كتاب في الفيزياء!
ولا عجب ألا أقف على هذا الرأي، إذ كيف أتوقع وجودَه في كتب الفقه أو الحديث أو الشريعة بشكل عام، وفقهاؤنا ومشايخنا كانوا هم أكثر الناس عداءً لهذه العلوم!
كيف أتوقع أن أجد رأيًا كهذا وقد قال أبو حامد الغزالي في المستصفى «ثم العلوم ثلاثة: عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم، فهي بين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم. وبين علوم صادقة لا منفعة لها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع».
كيف أتوقع أن تقع عيني على هكذا رأي، وقد أخرجوا هذه العلوم من زمرة الدين أصلًا، فلا يأمر بها الدين، ولا يستحبها!
كنت أتمنى أن يُقال إن لله كتابين اثنين، كتابًا مسطورًا من حروف اللغة العربية، وكتابًا آخر مسطورًا بحروف الرياضيات ومعادلاتها. وقد أمرنا الله بالنظر في كلا الكتابين، أن نقرأهما معًا، ونتدبرهما معًا، ونكشف أسرارهما معًا، فهو القائل «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق»، وهو القائل: «إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأن أتلو القرآن».
فإذا كان الأمر بتلاوة القرآن يُثاب عليه القارئ بكل حرف حسنة، أفلا يكون الأمر بالسير في الأرض يثاب السائر فيها بكل خطوة حسنة؟
إذا كانت تلاوة القرآن ينال عليها القارئ بكل حرف حسنة، فلماذا لا ينال الدارس للرياضيات بكل معادلة حسنة، وبكل رقم حسنة، وبكل رمز حسنة، ألم يقل الله «لتعلموا عدد السنين والحساب»؟
إذا كانت تلاوة القرآن ينال عليها القارئ بكل حرف حسنة، فلماذا لا ينال الدارس للفيزياء الفلكية بكل حرف في كتاب الفيزياء حسنة، ألم يأمر الله في قرآنه بالتفكر في ملكوت السموات والأرض؟ ألم يقل وعلامات وبالنجم هم يهتدون؟ فلماذا لا يثاب الدارس للثقوب السوداء بكل معادلة حسنة؟
إذا كانت تلاوة القرآن ينال عليها القارئ بكل حرف حسنة، فلم لا ينال الدارس في التاريخ بكل كلمة حسنة، ألم يأمرنا الله بدارسة التاريخ وقَصَّه علينا قصصًا في كتابه لنأخذ منه العبر والعظات؟
لماذا لا نعتبر كل قراءة لأي علم من العلوم حسنة، ألم يقل الله «اقرأ» وتركها هكذا مفتوحة لأي قراءة في أي علم؟ فلماذا يتمسمر فقهاؤنا عند قراءة القرآن، وكأن الله لم يأمرنا إلا بقراءته وحده!
وما معنى أن يقال: ونعوذ بالله من علم لا ينفع؟ وكأن العلوم منها نافع ومنها ضار!
إن العلم لا يضر إلا الجاهل فقط، الجاهل وحده هو الذي يعتبر العلم عدوًا له، وخطرًا عليه وضررًا وتهديدًا مباشرًا له. فلا شيء من العلم بضار، ولا شيء من العلم بمذموم، فالعلم كله خير، والعلم كله نافع. وهنا أريد أن أفرق بين العلم وبين استخدام العلم، فالقرآن نافع كله وخير كله، واستخدام آيات القرآن للقتل والإرهاب، لن يجعل القرآن كتابًا ضارًا. فالعلم خير كله، والعلم نافع كله، والعلم نور كله، والعلم هداية كله. ولا يخاف من العلم إلا جاهل جهول.
ما معنى أن يُقال: علم لا ينفع وجهل لا يضر.
وأي جهل هذا الذي لا يضر؟ فإذا لم يكن الجهل ضررًا فما هو الضرر إذًا؟ إذا لم يكن الجهل قبحًا فما هو القبح؟ إذا لم يكن الجهل منقصة وعيبًا فما هما إذًا؟
الجهل ظلام كله، والجهل ضرر كله، والجهل عيب ونقص كله.
أرجع فأقول: إن دراسةَ كتاب في الفيزياء لهي مُعادِلةٌ لدراسة القرآن، بل لربما هي أفضل وأعظم؛ ذلك أن القرآنَ يحفظه المسلمون صغارًا وكبارًا، نتغنى به وبقراءته ليل نهار، نسمعه في المساجد والطرقات والبيوت، ولكن المسلمين متخلفون في العلوم، فلو منعت أوروبا عنهم الإنترنت لما استطاعوا أن يخترعوا مثله، ولو توقف الغربُ عن إنتاج الدواء لماتوا من المرض، ولو توقف الغرب عن إنتاج العلم لماتوا من الجهل.
أو كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:
إنه لو قيل لكل شيء في البلاد الإسلامية: عد من حيث جئت. لخشيت أن يمشي الناسُ عراةً، لا يجدون – من صنع أيديهم – ما يكتسون ولا ما ينتعلون، ولا ما يركبون، ولا ما يضيء لهم البيوت، بل لخشيت أن يجوعوا؛ لأن بلادهم لا تستطيع الاكتفاء الذاتي من الحبوب!
ألا يحق لنا بهذا هذا الواقع المخزي أن نقول: إذا كانت قراءة أي حرف من القرآن بحسنة، فإن قراءة أي حرف من كتب العلوم المتأخر فيها المسلمون، كالفيزياء، والهندسة، والطب، والكيمياء، والأحياء، والتاريخ، ألا يكون قراءة أي حرف من هذه العلوم بألف حسنة؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست