من العنف الاستعماري إلى العنف الثوري

يتحوّل العنف الاستعماري الذي يضرب الأنا الجماعية أو الوجود الذاتي للمستعمَر؛ إلى عنفٍ ثوريٍّ مُضاد ضد المستعمِر ذاته. على أن هذا التحوّل لا يتم بشكلٍ مفاجئٍ وإنما يمر بثلاث مراحلٍ أساسيّة تمثّل مرحلة التلقّي للعنف وتوجيهه بشكلٍ خاطئٍ بين المستعمَرين أنفسهم؛ ثم تفشي العنف ضد العسكر والمحتلّ بشكلٍ عفويٍّ وغير منظّم؛ قبل أن تأتي مرحلة النضج التي يراها فانون بداية عملية الكفاح من أجل التحرر الحقيقي، وهي المرحلة التي يتم فيها تسييس العنف العفوي وغير المنظّم الذي يمثّل مرحلة الغضب العارم ضد الاستعمار.

فالعنف – باعتباره وسيلة أساسية للمستعمِر – يؤدي إلى إحداث نوع من الصدمة والرعب بين طوائف المستعمَر، وهو ما يؤدي إلى تفتيت المجتمع، ويخلق التناقضات والأحقاد بين الفئات الاجتماعية المختلفة، فتبدأ النزاعات الداخلية بين طوائف المستعمَر، وتنتشر الجرائم المختلفة بسبب التوتر الذي أحدثه العنف الأول. إنه يريد أن يأخذ مكان المستعمَر أو مكانًا شبيهًا به. «إن عالم المستوطن عالم عدوّ ينبذه نبذًا، ولكنه في نفس الوقت عالم يستهوي المستعمَر ويثير فيه الحسد»،[1] وهو –في نفس الوقت – «شخص مضطهَد يحلُم بأن يصبح مضطهِدًا».[2]

يحاول المستعمِر في هذه المرحلة أن يسيطِر على العنف الداخلي باستخدام رجال الشرطة؛ الأداة الأساسية عند المستعمَر للحوار مع السكان الأصليين. فيبدأون في ممارسة العنف المادي والمعنوي بإفراطٍ ضد السكّان الأصليين، وهو ما يوجه جزءًا من العنف الداخلي إلى عنفٍ ضد المستعمِر ورجال شرطتهِ كذلك.

إن العنف الأول الذي مارسه المستعمِر ينتشر داخل العالم المستعمَر ويتمظهر بأشكالٍ مختلفة؛ فهو تارّة تُفرّغ شحناته في أنواعٍ من الرقص العنيف أو الإباحي الذي يخرج بصاحبهِ عن طورهِ، أو يتحوّر إلى ظاهرة الاعتقاد في المسّ وشعور الفرد بأن كائنًا غيبيًا قد سيطر عليهِ، أو في ظاهرة الانتحار الجماعيّ والاعتقاد الخرافي بأن هذا الاحتلال هو نوعٌ من العقاب الإلهيّ، ويستنفد كذلك في خصوماتٍ يقتل فيها الإخوة إخوتهم، أو في مواجهات مسلحة جزئية ضد الشرطة والمستعمِر، وفي عمليات التخريب والحرق لممتلكات المستعمِر أو زبانيتهِ.

لا يحدد فانون نقطة محددة ينضج فيها الوضع ويتحول هذا العنف العفويّ إلى عنفٍ ثوريّ قادر على القيام بحركة تحرير وطني. إذ إن الأمر يعتمد على ديالكتيكية معينة بين الشعب بطوائفهِ المختلفة والأحزاب الوطنية البرجوازية والنخب الثقافية والتجارية التي يصفها فانون بأنّها «عنيفة في الأقوال، إصلاحية في المواقف والأفعال».[3]

إن السياسيين والمثقفين المستعمَرين يعرضون أنفسهم وسيطًا بين الطرفين؛ وهو ما يقبله المستعمِر ويُقبل عليهِ. هكذا –وبحركة بهلوانية كما يقول فانون – تتقدّم الفئة التي كانت في مؤخِّرة النضال الوطني لتصير في طليعة المفاوضين من أجل إيجاد تسوية. هذه الأحزاب السياسية والنخب المثقفة يتحدّثون عن مبادئ دون أن يرفعوا شعارات، وتأخذ مطالبهم شكلًا دون أن يكون لها مضمون أو برنامج سياسيّ. هم يتحدّثون ويخطبون ويتحاشون فكرة نسف النظام القائم، لكنّهم في نفس الوقت يبثّون في ضمائر المستمعين والقرّاء «خمائر رهيبةٍ تهيئ للنسف».[4] فخطبهم تخلق حالة من الرومانسيّة التي تسمح للخيال بالطواف خارج النظام الاستعماري والخروج منه، وتوجه خيالهم نحو اليسار. يتأثّر الشعب بهذه الشكلانية الثوريّة، فينتج أبطاله الوهميين والقدوات التي تجعل من اللصوص والمجرمين أبطالًا ثوريين. هذه الحالة الرومانسية من الثورة التي بثّها المثقّف المستعمَر كمحاولة لكبح جماح العنف وجعل الشعب بهدف الإبقاء على النظام، تمنح هذا العنف العفويّ الهمجيّ نوعًا من الوعيّ الساذج الذي ينضج تدريجيًا. إذ يعيد الشعب إنتاج أبطال المقاومة الوطنية من التاريخ، ويستلهم التجارب الأخرى من البلاد الأخرى التي نالت استقلالها، ويتكوّن لدى الشعب زعماؤه الوطنيون.

العنف الثوري عند فانون له وظائف مختلفة؛ تحررية ونهضوية وإبداعية تعمل على إعادة إحياء الثقافات التي قضى الاستعمار عليها. وله كذلك وظيفة نفسية تعمل على تجاوز النظرة الدونية التي نتجت نتيجة الاستعمار. على أن أهم وظيفة له هي وظيفته الاجتماعية التي تعمل على إعادة توحيد العالم الاستعماري وتحطيم هذه الثنائية التي ولّدها الاستعمار. فالانخراط في النضال الحقيقي من أجل التحرر من الاستعمار سيعيد توحيد هذا العالم وسيطرد المستعمِر بكل زبانيتهِ، وسيمنح السواد الأعظم من الناس الصوت والسلطة في مرحلة ما بعد الاستعمار.


[1] فرانتز فانون، المرجع السابق، صـ31.

[2] فرانتز فانون، المرجع السابق.

[3] فرانتز فانون، المرجع السابق، صـ35.

[4] فرانتز فانون، المرجع السابق، ص41.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد