هناك حقيقة ظاهرة للعيان تؤكد أن الوعي الإنساني لدى المسلمين الأوائل كان متوافقًا مع النص المقدس في لحظات انبثاقه الأولى من النواحي الاجتماعية والاقتصادية، كما أن بنية النص – كفلسفة لفهم الحياة – كانت متصالحة مع فلسفة الوجود التي تمسك بتلابيب وعي البشر في ذلك الوقت، إلا أن مغامرة العقل البشري التي بدأت قبل خمسة قرون حينما حاول بعض أصحاب الديانات التوحيدية وضع حد لعملية القولبة الذهنية التي يقوم بها النص لعقل المتلقي المؤمن به، قد تسبب في تحول خطير على مفهوم الأديان برمتها!

 

تتجلى خطورة ذلك التحول في حقيقة أن النص كان منسجمًا إلى حد كبير مع محددات الوعي البشري في القرون الماضية، فذلك الوعي لم يكن يستنكر تجارة الرقيق ورواج سوق النخاسة، ولم يكن يستقبح إخضاع المرأة لوصاية الرجل ومصادرة حقها في الاستقلالية، فضلا عن ولعه بالأساطير والأوهام وتعلقه بالقصص والخرافات، ولكن الأمر اختلف تمامًا حين تمكن الإنسان من صناعة فلسفة خاصة للوجود ساهمت بشكل كبير في تحرير وعيه من ثقل العقائد الدينية، بل تطور الأمر إلى تغيير المسار الحضاري للتاريخ حين أبدع أفكارًا ذات منحى إنساني بحت، كان لها أعظم الأثر في صناعة حضارة جديدة لم يعرف البشر لها مثيلا.

لقد تسبب هذا التحول في نشوء ظاهرة الصراع على الوعي العربي بين تيارين فكريين متناقضين؛ يرى التيار الأول مشروعه امتدادًا طبيعيًا للحضارة الإسلامية ويؤكد أصالته من خلال ربط أفكاره بالنص المقدس، بينما يؤكد التيار الثاني أنه يمثل استجابة طبيعية للتحديات الحضارية المعاصرة وأن مقولاته ليست “مناقضة” لروح النص المقدس الذي لم يحسن أتباع التيار الأول فهم مقاصده العميقة! ونظرًا لوضوح مقولات التيار الأول التي تتلخص بإحياء قيم التراث والحفاظ على الهوية ومقاومة الذوبان الثقافي في الغرب، فسأكتفي باستعراض الطابع الإشكالي لمقولات التيار الثاني الذي اصطُلح على تسمية رموزه بـ”المثقفين العلمانيين” أو “المفكرين الحداثيين”.

 

الإسلام الروحي في مواجهة الإسلام السياسي
لقد شهدت أوروبا الكثير من الفظائع الناتجة من الاقتتال الطائفي بين أبناء الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية، وبعد سنوات من الحروب الدينية اجتمع كبار قادة القارة في وستفاليا عام 1648 حيث تم الاتفاق على جملة من المبادئ من أهمها: مبدأ الولاء القومي، ومبدأ السيادة، ومبدأ عدم التدخل، حيث شكلت هذه المبادئ بمجموعها أساسًا حاكمًا للعلاقات بين الدول، وذلك أملا في تحقيق الاستقرار وأن يحُول تطبيقها دون اندلاع الحروب الدينية من جديد، وبعد معاهدة وستفاليا اضطرت المسيحية إلى التخلي عن تراثها السياسي – حقنًا للدماء – والولوج إلى العلمانية من بابها الواسع عن طريق الروحانية.

 

في هذا السياق يرد مصطلح “العلمانية الدينية” للتأكيد على أن فصل الدين عن الدولة لا يستلزم بالضرورة فصل الدين عن السياسة، “لأن الدولة تحتكر العنف الشرعي ومن الصعب أن تبقى حيادية بالنسبة للطوائف والمذاهب المختلفة”، وفي المجتمعات الدينية التي يشكل فيها الدين موجهًا أساسيًا للشؤون العامة يكون من المستحيل الفصل الكامل بين الدين والسياسة، ولكن يجب ألا تسعى الدولة إلى فرض قوانين دينية من الأعلى، لأنه لا يمكن لأي سلطة ادعاء امتلاك الحقيقة الدينية التي لا جدال فيها، “ولم يعد بالإمكان الزعم بأن قوة الدولة يجب أن تكون حكرًا على مجموعة قليلة من السلطات الدينية أو العلماء الإسلاميين”، ولذا من الواجب السماح لقيم المواطنين الدينية المشاركة بالحوار السياسي المفتوح.

 

السياسة تشتمل على منطق لاأخلاقي بالضرورة – لأنها تراعي المصلحة – في مقابل الدين الذي هو علم الأخلاق، ولذا فـ”العلمانية هي ركيزة أساسية في عملية التحول الروحي للإسلام، إذ لا مدخل له إلى الحداثة والحضارة إلا عن طريق الروح”، وتتركز سلطة الدين في معرفة الغيبيات وعلاقة الإنسان بالله الواحد، بينما تتركز سلطة الدولة في صلة الإنسان بالمجتمع الذي يقوم على التعدد، ولذلك فـ”العلمانية ضرورة سياسية اجتماعية فكرية تنشأ في المجتمعات لأنها ليست طائفة واحدة وإنما إيمان يتوزع على طوائف”، ولهذا فإن فصل الدين عن الدولة هو ضرورة تمليها حالة المجتمع المختلط طائفيًا، وليس شيئًا مستوردًا من الخارج أو مكتسبًا بفعل المؤثرات الغربية.

العلمانية ليست غريبة على التراث الإسلامي
كثيرًا ما يقال أن بذرة العلمانية في المسيحية – ممثلة بالفصل بين الدين والدولة – كانت موجودة في العبارة اللاهوتية الشهيرة (أعط ما لله لله وأعطِ ما لقيصر لقيصر)، ولكن يوجد في الإسلام تمييز أوضح بكثير من هذا النص الإنجيلي، فمثلا حديث تأبير النخل – الذي رواه الإمام مسلم – حيث أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعدم تأبير النخل فخرج شيصًا، أي: لم يثمر، فقال كلمته المشهورة (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وفي رواية (إذا حدثتكم عن الدنيا فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ ولكن إن حدثتكم عن الله فإني لا أكذب)، وكلمة الشريعة لم ترد في القرآن سوى مرة واحدة (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) ولم تكن تحمل المعنى الفقهي الذي اصطبغت به لاحقًا، وكلمة “دولة” لا وجود لها في قاموس الإسلام وإنما ظهرت في كتابات المسلمين بعد القرن الثاني الهجري.

 

يتميز العقل الفقهي الإسلامي بتأكيده على ضرورة التنبه للمقاصد العميقة للنصوص الدينية مما جعله مؤهلًا لاستيعاب مبادئ الحضارة الحديثة، ولا أدل على ذلك من إقرار الشيخ رفاعة الطهطاوي لمفهوم المواطنة بصورته المعاصرة، وتأكيد الشيخ علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) على الجوهر الروحي للدين الإسلامي واستقلاله عن السلطة السياسية، بل إن الإصلاحي الكبير الشيخ عبدالرحمن الكواكبي قد صرح بأنه “يجب على الخاصة أن يعلِّموا العامة التمييز بين الدين والدولة. لأن الغاية التي تسعى إليها الدولة هي دنيوية محضة وأعني بها تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم، وأما الدين فالغاية المقصودة منه واحدة على اختلاف الزمان والمكان وهي صلاح الناس في هذه الدنيا حتى يدخلوا جنات النعيم في الآخرة”.

 

وبما أن العلم والمعرفة هي ملك للإنسانية جمعاء فإن العلمانية ليست غريبة على التراث العربي والإسلامي، فقد ذكر توماس غولدشتاين في كتابه (المقدمات التاريخية للعلم الحديث) أن عصر الأنوار في أوروبا استند إلى كتابات ابن رشد وابن خلدون وغيرهما من المفكرين، وأن اقتناء كتبهم في ذلك الوقت كان يعتبر إلحادًا! يقول الشيخ جودت سعيد: “ما العلمانية سوى تطور التاريخ منذ بدء الخلق، هذا التطور الذي أتاح لنا نحن بشر اليوم أن نفهم الوجود أكثر مما كان بإمكان أسلافنا الذين نزل عليهم القرآن، حتى أكاد أقول أن الله تنازل عن إرسال نبي جديد أو كتاب آخر لأنه صار لدينا عقول، العقول التي تمكننا من تسخير كل الأشياء والوقائع حولنا، فعصر النبوة اعتمد على الخوارق وانتهى إلى مرحلة العلم الذي يأخذ بالعواقب”.

مستقبل العلاقة بين الدين والدولة في العالم الإسلامي
إن طرح مفهوم الفصل بين الدين والدولة لا ينبغي أن يشكل عائقًا أمام الجهود الإصلاحية، فالعمل الإصلاحي لا يتعارض مع القيم الدينية ولا مع المفاهيم الإنسانية الحديثة، “فالعلمانية لم تكن العصا السحرية في الاتحاد السوفيتي ولا في أي مجتمع تبنى الحكم الشيوعي، كما لم يستغنِ المجتمع الأوروبي عن الدين حين نادى بالديمقراطية كطريق لتحقيق أهداف التقدم والبناء الاقتصادي والاجتماعي”، بل إننا نجد في مجتمعات علمانية – كبريطانيا والدنمارك – إقرارًا رسميًا بوجود كنيسة للدولة، وعلمانية الدستور لا تقتضي بالضرورة علمانية المجتمع كما هو الحال في تركيا والولايات المتحدة.

 

لا يمكن الكلام عن أية دولة بمعزل عن المجتمع الذي تحكمه، ولذلك يمكن القول أن “الدولة هي مجموعة بشرية على أرض محددة ذات سلطة توجه هذه المجموعة بموجب نظام سياسي اقتصادي اجتماعي وحقوقي تسعى السلطة إلى تحقيقه”، وإذا اعتبرنا الدولة مظهرًا سياسيًا للاجتماع البشري فإن الأمة هي واقع اجتماعي بحت تمثل وعي المجتمع بذاته الذي يعتبر سابقًا على وجود الدولة وموجهًا لسياساتها العامة. والدولة في الغرب لم تصبح حديثة إلا عندما أوجدت فصلًا دقيقًا بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وقد أسس لهذا الفصل عصر الأنوار والإصلاح الديني والثورة الفرنسية وحركة الاكتشافات العلمية ونشوء الرأسمالية.

 

لا ضرورة لأن تضع الدولة نفسها في مواجهة مباشرة مع الدين، ولكن ضبابية العلاقة بين الدين والدولة والتداخل فيما بينهما لا تزال تطرح على المثقفين العرب والمسلمين الإشكالية التالية: كيف يمكن بناء دولة ديمقراطية حديثة مع المحافظة على المقاصد الأساسية للدين؟ أو كيف يمكن المواءمة بين الإسلام كدين وحضارة، وبين المفاهيم التي تتبناها الدولة الحديثة مثل التعددية السياسية والمساواة في الحقوق والفصل بين السلطات وحيادية الدولة تجاه معتقدات مواطنيها؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد