على عكس باقي الثورات العربية التي عرفت بأيام اندلاع شرارتها مثل الثورة المصرية التي اندلعت يوم 25 من يناير أو الثورة اليمنية التي اندلعت يوم 12 من فبراير أو الثورة الليبية التي اندلعت يوم 17 من فبراير. الثورة التونسية اشتهرت أكثر باليوم الذي رحل فيه الدكتاتور تاركا وراءه قرابة الربع قرن من السلطة ومعلنا انهيار منظومة الاستبداد التي حكمت تونس منذ الاستقلال.

بين من اعتبر 14 يناير بداية النهاية لثورة تم احتواؤها بتخلي النظام عن واجهته والإبقاء على مضمونه، وبين من اعتبره نقطة انطلاق لمسار ثوري ما زال مستمرًا إلى غاية يومنا هذا. شخصيا، أميل أكثر إلى الزاوية الثانية مع أني لا ألغي الزاوية الأولى، إذ أرى 14 يناير بوصفه محطة انطلاق مسار ثوري بدأ تونسيا وتطور ليصبح إقليميا عربيا ومن ثم عاد للنكوص نحو التخندقات القطرية تحت ضغط عدة عوامل ولكنه ما زال لم يستكمل بعد استحقاقاته التي أدت إلى اندلاعه في المقام الأول.

نعم، 14 يناير بالنسبة للعالم العربي، كان مثل يوم 14 يوليو 1789 بالنسبة لأوروبا، وهو يوم اقتحام سجن الباستيل الذي لم يكن لحظة انهيار هيبة الملكية الفرنسية فحسب، بل هيبة جل ملكيات أوروبا التي عرفت أن هذا المسار سينتهي إما بالإطاحة بعروشها أو تقييد سلطاتها وهو ما حصل بالفعل بعد أكثر من قرن من الدماء والدموع.

هذا المسار الثوري العربي عرف الكثير والكثير من العثرات ودفعت من أجله الشعوب فاتورة غالية وغالية جدا سواء ماديا أو بشريا. لكن قبل الانطلاق في الحديث عن المآلات، أود تسليط الضوء على معطيين اعتبرهما جوهوريين ولا يمكن الفقز عنهما إذا ما أردنا أن نقيم هذه العشرية الأخيرة بكل موضوعية. أولا، الثابت هو أن تغيير ما حصل في العالم العربي، إيجابي أم سلبي هذا يبقى لتقدير كل منا، أحببنا أم كرهنا كتب التاريخ ستتناول الحقبة الزمنية الحالية بوصف أن ما كان قبل 2011 لم يكن أبدا كما بعده، تلك السنة كانت لحظة مفصلية تركت بصمتها في الوعي السياسي العربي وفيما يتعلق بالنقاش حول المسألة الديمقراطية في منطقتنا العربية.

المعطى الثاني يتعلق بالتعامي عن الأسباب الحقيقية والعميقة للثورات وإلصاقها في شماعة المؤامرة والجلوس على المقعد المريح الذي يعفي المتابع من كل تعمق وتحليل للوقائع. لا، كلنا كنا نعيش في الدول العربية قبل 2011 ونعرف كيف كانت تحكم وتسير، ونعرف الإعلام الواحد والصوت الواحد الذي لا يعلو فوقه صوت والذي هو بالطبع صوت الحاكم، كلنا سمعنا عن القصص المرعبة التي خرجت من داخل زنازين التعذيب، كلنا كان يعرف ممارسات البوليس، كلنا يتذكر مشاهد الانتخابات الكاريكاتورية في بلداننا وكلنا يعرف كيف استكرشت العائلات الحاكمة والمتنفذة.

هذه الوصفة من الفساد، المحسوبية، احتكار الثروة مضافا إليها سحق الحريات وغياب الديمقراطية لم تكن لتؤدي لغير ذلك الانفجار الشعبي العارم، ولو لم تكن في 2010 من المؤكد أنها كانت ستندلع في سنة 2015 أو في 2020 أو حتى 2030، ولو لم تكن حادثة حرق البوعزيزي نفسه من المؤكد أنها كانت ستشتعل بفعل حادثة أخرى، وما هذه إلا مجرد تفاصيل أو قطرات أفاضت الكأس. هكذا تخبرنا كتب التاريخ الذي لم تكن حركته الطبيعية لتقبل بالتعايش مع أنظمة من هذه الطينة، ولم تكن الشعوب لتسكت أبد الدهر وهي ترى ما وصلت إليه أمم أخرى على مستوى تجذير ديمقراطياتها وإقامة الحكم الرشيد.

في قراءتنا لرصيد للثورات بعد عقد من الزمن، من المؤكد أن المرء سوف يقف متعجبا أمام النتيجة التي وصلنا إليها اليوم. لو أخبر أحدنا الثوار والمنتفضين العرب سواء أولئك الذين تظاهروا في الشوارع أو الذين حملوا السلاح بأن مصر سيكون حاكمها اليوم جنرال انقلابي من الجيش، وبأن ليبيا سوف يحكم نصفها جنرال انقلابي كاد هو الآخر أن يسيطر على كامل البلاد، وبأن اليمن سوف يعود إلى مصارعة نماذج حكم قروسطية ظن أنه قضي عليها منذ الستينات، وبأن دكتاتور البحرين سيزداد غيا ولن يقدم مثقال ذرة من تنازل، وبأن سوريا سيظل يحكمها آل الأسد بعد أن هجروا نصف شعبها، وبأن العائلات المافياوية المتنفذة ستظل تحكم تونس من وراء الستار. من المؤكد أن أغلبهم ما كان ليصدق، لكن فعليا هذه حقائق مؤلمة وجب أن نتعامل معها اليوم.

عبير موسي التي كانت في يوم ما بوق حزب التجمع (حزب بن علي) في تونس، صار حزبها اليوم يتصدر استطلاعات الرأي الأخيرة التي وإن كان البعض يشكك في مصداقيتها، إلا أنه لا يمكن إنكار حقيقة أن المرأة صار لها جمهورها العريض. السيسي الذي كان ذات يوم رئيس أحد أقذر الأجهزة المخابراتية في مصر هو اليوم من يحكم بلاد الكنانة بصلاحيات فرعونية لم يحظ بها حتى حسني مبارك. سيف الإسلام القذافي الذي ظهر ذات يوم وهو يهدد ويتوعد الليبيين في أول أيام الثورة بات يراه البعض شريكا في الحل السياسي والبعض الآخر يدعوه حتى إلى الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة. علي عبد الله صالح الذي ثار اليمنيون على فساد وإستبداد عائلته بالسلطة، عاد اليوم بعض أفراد أسرته ليقودوا التشكيلات العسكرية التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا.

على مستوى الفاتورة المادية والبشرية، الوضع من المؤكد أنه أسوأ بكثير، اليمن السعيد غابت عنه البسمة منذ سنين، كيف لا وهو من اجتاحته المجاعات والأوبئة والحروب التي أخذث أرواح أكثر من 230 ألف شخص حسب إحصائيات الأمم المتحدة وهي ما قد تجعل من مأساة البلد الأسوء إنسانيا في القرن الواحد والعشرين حيث يقدر بأن 80 بالمائة من اليمنيين باتوا بحاجة إلى المساعدات الغذائية، من بينهم 3.2 مليون طفل وامرأة مصابين بسوء التغذية الحاد، هذا إلى جانب افتقاد 15 مليون يمني للمياه النظيفة وانقطاع 2 مليون الطفل عن التعليم بما يعنيه كل ذلك من تبعات مستقبلية وخيمة. مع كل هذا البؤس، وجب أن لا نغفل عن حقيقة أن اليمن لا يزال يعيش في قلب رحى حرب لم تنته منذ أكثر من 5 سنوات بما يعنيه ذلك من دمار للبنية التحتية وترد للخدمات الأساسية التي كانت أصلا في أتعس حالاتها قبل اندلاع الحرب.

في ليبيا، الحرب الأهلية لم تضع أوزارها إلى حد الآن ولا يبدو أن نهايتها تلوح في الأفق مع فوضى انتشار السلاح الذي تعاني منه البلاد بشكل رهيب، حيث قدرت عدد قطع الأسلحة المنتشرة بشكل غير شرعي بما بأكثر من 30 مليون قطعة سلاح. على المستوى الاقتصادي، البلاد لم تستعد نسق إنتاج النفط لسنة 2010 إلا لفترات قصيرة ولا يبدو أنها ستستعيده عن قريب مع ما أصاب المنشآت النفطية من خراب وتقادم خلال العشرية الماضية، هذا في الوقت الذي تقدر فيه عدة مصادر فاتورة إعادة إعمار ليبيا بأكثر من 100 مليار دولار.

في سوريا، ذلك البلد المنكوب والشعب المغدور، يقدر عدد من قتل وجرح في سنوات الحرب الماضية بمئات الآلاف بما يعنيه ذلك من عائلات تمزقت ومنازل تدمرت ونساء ترملت ومن حياة أناس انقلبت رأسا على عقب بين ليلة وضحاها. سوريا والتي إن كان منسوب العنف فيها قد انخفض خلال العامين الماضيين إلا أن مأساة أهلها تتواصل مع أولئك الذين تقطعت بهم السبل في شتى أصقاع الأرض والذين يقدر عددهم اليوم بأكثر من 5 ملايين لاجئ في الخارج و6 ملايين نازح في الداخل، وفي الوقت الذي أكتب فيه لكم هذه الأسطر، هناك مئات الآلاف من السوريين ممن يصارعون العراء في مخيمات لبنان والأردن وإدلب، ومنهم من يموت بسبب البرد والجوع.

في مصر، التي ظن سياسيوها أنهم ودعوا السجون إلى الأبد بعد سقوط مبارك، تقف البلاد اليوم أمام واقع مرير حيث يقبع أكثر من 60 ألف معتقل سياسي خلف قضبان والتهمة الجاهزة لكل مصري حتى لو كان يساريا ماركسيا هي الانتماء لجماعة الإخوان ونشر الأخبار الكاذبة. سياسات القمع لا تتوقف عند التغيبب في السجون والقتل عبر الإهمال الطبي المتعمد الذي كان أبرز ضحاياه الرئيس الراحل محمد مرسي، بل تمتد إلى التصفيات الميدانية والإخفاء القسري كما هو الحال مع النائب السابق مصطفى النجار المختقي منذ سبتمبر 2018.

في البحرين، من لم يطله بطش السلطة في الداخل، تلاحقه هذه الأخيرة حتى وهو في الخارج عبر تجريده من جنسيته بالاستناد إلى قوانين صيغت خصيصا لهذا الغرض، وقد بات عدد من سحبت منهم جنسياتهم اليوم بالمئات، من بينهم سياسيين وبرلمانيين وعلماء دين ومواطنين.

هذه المحصلة المريرة أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن طريق التغيير في العالم العربي سيكون طويلا وأن كلفته ستكون عالية. للأسف، هكذا أرادت الأنظمة التي خيرت رفع كلفة التحول الديمقراطي على أن تقدم تنازلات إلى شعوبها أو تستبق الأحداث وتقوم بإصلاحات جدية. حتى الدول التي سقط فيها الطغاة، أثبتت الأيام فيما بعد أن ما رحل هو فقط رأس النظام وبأن هيكل النظام بقي، ولعل أبرز مثال على ذلك هي مصر التي سقط فيها الطاغية حسني مبارك لكن نفوذ المؤسسة العسكرية ظل قائما بل وازداد قوة بعد رحيله.

هل وصلنا إلى هذه النتيجة بين ليلة وضحاها ؟ قطعا لا، المتابع الجيد لما حدث خلال العشرية الماضية يعرف أن هذا المسار الثوري عرف مراحل مد وجزر، حيث لا يمكن أبدا إنكار الانتصارات التي حققتها الثورات في العامين الأولين من انطلاقها. نعم، كنا قد رأينا في تونس أغلب رموز نظام بن علي وهم يقتادون إلى المحاكم. في مصر، شاهدنا مبارك نفسه في قفص الاتهام وهو يرد على أسئلة القاضي في مشهد لم يكن لأحد أن يتخيله. في ليبيا، نظام القذافي كان قد انتهى مؤسساتيا مع سقوط آخر معاقله في سرت وبني وليد. في اليمن، أرغم علي عبد الله صالح على توقيع اتفاق يتنازل بموجبه عن السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي (ولو صوريا). في سوريا، كان نظام الأسد بصدد فقدان السيطرة على البلاد تدريجيا حتى أن المعارك وصلت ذات يوم إلى قلب العاصمة دمشق بل وبالقرب من ساحة العباسيين. أما باقي الأنظمة العربية فقد شاهدنها تسارع للقيام بإصلاحات (ولو بشكل ظاهري وظرفي) لتفادي انتقال العدوى الثورية إلى بلدانها.

إلى غاية أواخر سنة 2012، من بين كل الثورات العربية التي اندلعت سنة 2011، الثورة البحرينية كانت هي الوحيدة التي تم إخمادها وذلك إثر تدخل قوات درع الجزيرة لمساعدة النظام على قمع الاحتجاجات في مارس من نفس العام، وقد استتب الأمر لهم بعد بضعة أشهر من المقاومة الشعبية. سنة 2013 كانت هي اللحظة المفصلية التي بدأت فيه الموجة بالارتداد سواء في تونس أو ليبيا أو مصر، ولم يكن الاختيار على مصر عبثا، فالثورة المصرية هي التي حولت الثورة التونسية من ثورة قطرية يتيمة إلى ثورة عربية شاملة، وهي التي أخرجتها من الفضاء المحلي الضيق إلى الفضاء العربي الرحب، وبالتالي إجهاض أو عرقلة مسار البناء الديمقراطي في مصر لما يمثله ذلك من إشعاع على باقي الوطن العربي كان أمرا ضروريا.

لكن هذه الردة الاستبدادية كما أسميها لم تكن لتنجح وترى النور لو لم تجد قوى خارجية استثمرت فيها وقدمت إليها كل أنواع الدعم كل حسب مصلحته وأجنداته. فالنظام الرسمي العربي ممثلا أساسا في نظامي الرياض وأبو ظبي رأى في هذه الموجة الثورية تهديدا لعروش باقي الحكام العرب وبالتالي كان يجب العمل على إيقافها بأي ثمن وقد أنفقت هذه الدول مليارات الدولارات ولا تزال من أجل هذه الغاية. دول أخرى مثل إيران وروسيا رأت في هذه الثورات تهديدًا لمصالحها الجيوسياسية ومؤامرة على نفوذها في الإقليم، وتحت هذه الشعارات برروا تدخلاتهم ومجازرهم بحق الأبرياء كما هو الحال في سوريا. بالنسبة إلى القوى الغربية، هي قد اكتفت في الكثير من الأحيان بالمشاهدة وغض الطرف مثلما هو الحال مع سوريا، وفي أحيان أخرى قاموا ببيع السلاح إلى منتهكي حقوق الإنسان كما هو الحال مع اليمن ومصر والبحرين، وحتى إن تدخلوا فمن أجل مصالحهم ومنافع شركاتهم بدرجة أولى ولم تخلف تدخلاتهم سوى الخراب كما فعلت في ليبيا سنة 2011.

لكن هل تعنت الأنظمة وتواطؤ الخارج يعفي القوى الثورية من المسؤولية عما وصلنا إليه اليوم؟ قطعا لا، لكن قبل الخوض في التفسير وجب أن نجيب عن سؤال من هي القوى الثورية؟ إيماني الشخصي كان وسيظل أن هذه الثورات لم تقدها زعامات ولا خرجت من تحت عباءة تيارات أيديولوجية ولا رفعت شعاراتها، هي ثورات شعبية بامتياز نادت بالحرية والكرامة والعدالة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما كانت مشاركة العائلات السياسية فيها إلا بدرجات متفاوتة. وبالتالي القوى الثورية هي ليست فقط الأحزاب بل هناك النقابات، هناك الجمعيات الحقوقية، هناك الاتحادات الطلابية، هناك المحامون، هناك المدونون، هناك الصحفيون المستقلون، هناك روابط الألتراس… وفي تونس ومصر كنا قد شاهدنا كل من هؤلاء يقوم بدوره في مقاومة النظام.

إذا ما بدأنا بالقوى السياسية، مسؤوليتها تجاه تعثر المسار الثوري تبدو مضاعفة وذلك لفشلها في تأسيس تلك الكتلة التاريخية من أجل الديمقراطية القادرة على إيصال التجربة الوليدة إلى بر الأمان وسط أمواج الاحتقان السياسي والاجتماعي التي عصفت ببلداننا. على العكس من ذلك، عوض اعتبار الانتقال الديمقراطي قارب النجاة الذي يجب أن يتسع للجميع، كانت الحسابات الانتخابية هي من تحكمت في سلوك شتى العائلات السياسية وكل منهم أراد أن يكون ربان السفينة مع أن أغلبهم لا يمتلك أي برامج عملية ولا الكوادر القادرة على تنفيذها، وحتى لو كان لديهم لم يكن من السهل تطبيقها مع البيروقراطيات التي أورثتها لنا الأنظمة الاستبدادية والتي ستكون بلا شك مقاومة للتغيير.

أما الخطأ الآخر الذي قد يكون الأفدح والذي أحمل مسؤوليته إلى كل القوى الثورية، فهو إهمال البعد العربي للثورات، واختيار كل منها التخندق في فضائها المحلي، وذلك على الرغم من الفرصة الذهبية الني منحت إليها حتى تعمق التنسيق والتواصل فيما بينها مثلما فعل أجدادنا إبان فترة الكفاح ضد الاستعمار. ففي حين أن حناجر التونسيين والمصريين كانت تصرخ بصوت واحد في شتاء 2011 «الشعب يريد إسقاط النظام»، صار البلدان بعد بضع السنوات وكأنهما في كوكبين مختلفين، هذا بينما كانت جل الأنظمة العربية متوحدة في مواجهة موجة التغيير رغم خلافاتها وصراعاتها البينية، بل كانت ولا زالت حربهم تقاد من غرفة عمليات واحدة.

هل هذه المحصلة تعني أنه يجب أن نفقد الأمل ونستسلم للأمر الواقع ؟ قطعا لا، وهناك عدة أسباب تؤيد هذا الطرح. أولا، ما ثارت من أجله الشعوب في 2011 ما زالت أسبابه حاضرة بل وأكثر من قبل، إذا ما نظرنا اليوم إلى حال القضاء المصري سنجده أسوأ مما كان عليه في عهد مبارك، إذا ما نظرنا إلى نموذج حكم حفتر في ليبيا لن نجده يختلف عن نموذج حكم القذافي من حيث أسلوب الحكم العائلي وتمكين الأبناء، وإذا ما نظرنا إلى الوضع المعيشي في سوريا، سنجده أسوأ بـ100 مرة عن ما كان عليه قبل 10 سنوات حتى أن المؤيد صار اليوم يلعن بشار الأسد قبل المعارض. حتى في تونس التي تبدو الدولة العربية التي نجحت في إرساء الديمقراطية، فإن منجزها السياسي سيظل دوما مهددا إذا لم يحصنه المنجز الاقتصادي، وسيظل الوضع المعيشي الهش تربة خصبة لانتفاضات شعبية جديدة قد تقفز عليها القوى الشعبوية والسلطوية لتعيد البلاد خطوات إلى الوراء.

ثانيا، لو كانت الشعوب العربية قد فقدت الأمل أو تمكن منها الخوف كما يزعم البعض، لما كنا رأينا الموجة الثورية الثانية في 2018 و2019 عندما خرجت الجماهير في الأردن والعراق ولبنان والجزائر والسودان تقريبا من أجل نفس المطالب التي خرجت من أجلها الشعوب العربية في 2011. وبالرغم من اللعب على وتر التخويف وفزاعة الفوضى، إلا أن هذا لم يثن الشعب الجزائري مثلا عن النزول إلى الشوارع بالرغم أن ذكريات عشرية الدم ليست بالبعيدة.

ثالثا، للأسف قد يكون ما نمر به حاليا في العالم العربي أمرًا لا مناص منه. فجل الأمم التي ننبهر اليوم بتقدمها الاقتصادي والعلمي والتقني والحضاري لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم بسهولة، كلهم مروا بالمآسي والخيبات والتجارب المريرة التي أخذوا منها العبر والدروس، ولعل المثال الذي يبدو الأقرب إلينا جغرافيا وتاريخيا هو المثال الأوروبي. نعم، أوروبا التي نراها اليوم هي أوروبا التي مرت بالحرب العالمية الأولى والثانية وبالحرب الأهلية الإسبانية وبالحرب الأهلية اليونانية وبالهولوكوست وبمعسكرات الغولاغ، هذا فقط في القرن الأخير ودون الحديث عن ما قبله (الحروب النابليونية، حرب الثلاثين عام…)، وإذا ما كانت اليوم أوروبا تسير بخطى حثيثة على طريق ترسيخ ديمقراطيتها وبناء فضائها القاري الموحد، فذلك بفضل تضحيات أجيال وأجيال من الأوروبيين.

طريق النهوض العربي طويل وشاق، لن نختلف في هذا، لكن في آخره توجد حتميا شمعة الأمل.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد