التلهيج وحدود الأمن اللغوي
يقول الأستاذ محمّد الخبو في تقديمه لرواية«ميت حيّ» للكاتب محمّد معلّى: «عندما تقرأ نصّ ميّت حي للكاتب محمد معلّى تستهويك لغتان: لغة الرّاوي يروي حكاية مختار مع الحياة ممثلة خاصة في زوجته الحبيبة خديجة وهي لغة باذخة قريبة من منطق السرد الروائي في القصص الواقعي، ولغات الشخصيات العاميّة وقد صيغت بالدّارجة المحليّة لمدينة صفاقس»، ولا يخفي الأستاذ الخبو إعجابه بهذا الخطّ في الكتابة حين يقول: «واستعمال هذه اللغة العامية سمحت للمؤلف بجعل الشخصية تتكلّم بحسب مستواها الثقافي والفكري ولا يتسلّط عليها فيجعلها تتكلّم بلغة طه حسين أو العقاد كما يفعل عديد الكتّاب الروائيين في تونس ونحن نعتبر هذا باخسًا لحقّ الشخصية الروائيّة في الظهور النصّي الحقيقي في الرواية». (تقديم الرواية ص5).
والحقيقة أنّ نهج الأستاذ محمد الخبو هو امتداد لمدرسة في الكتابة الروائية ترى أن واقعية النص لا تكتمل الاّ بإشاعة هذه الواقعية في منطوق الشخصيات ذاتها وجعلها تلهج بلغة زمانها ومناخها النفسي والاجتماعي، حجتهم في ذلك أنّ إجراء نصّ فصيح على لسان شخصيات قصصيّة لا تجيد أحيانا حتّى كتابة أسمائها، يضعف منسوب الصدقية ويشعرك بسلطان الكاتب وصلفه وهو يعبّر عن مكنونات هذه الشخصيات، يقول الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون صاحب رواية (مصائر): «أعشق استعمال العاميّة في الحوار والرواية لما تنطوي عليه من قدرة تعبيرية هائلة وما توفره من قيم جمالية حسيّة يمكن اطلاقها في أجواء أكثر حميمية وأقل كلفة لغوية…».
وفي المقابل نجد رأيًا آخر ينتصر للفصحى لغةً للكتابة باعتبارها معطى لسانيًا يجمع العرب جميعًا بعيدًا عن اللهجات المحليّة وتعقيداتها، تقول باسمة العنزي صاحبة «قطط إنستغرام»: «عن نفسي أميل للحوار بالعربية الفصحى المبسطة. القارئ العربي ما ذنبه كي يتوه في دهاليز لهجات لا يعرفها» (القدس العربي 8 أفريل 2019/من مقال أحمد مجدي همام).
الرأي الثالث هو ما نهجه محمّد معلّى وهو يزاوج بين اللغة العامية المحكيّة واللغة الفصيحة وهذا ما عبّرت عنه الكاتبة مايا الحاج صاحبة رواية «بوركيني» وهي تحكي في نصّها البكر هذا حكاية أنثى محجبّة تعيش عوالمها النفسية الممزقة في واقع مهتز، تقول الكاتبة: «مع أنّني لا أميل إلى المبالغة في استخدام العاميّة المحكيّة في العمل الروائي، أرى أنّه من الضروري تحديث اللغة بما ينسجم مع التطور الحاصل في كلّ المجالات ومنها الرواية، لقد دخلت على حياتنا مصطلحات جديدة وفرضت بعض الكلمات الأجنبية نفسها على لغتنا المحكية وهذا لا بد أن يترك أثره على اللغة الفصحى التي ليست مخزنة كما نعتقد في أقبية مقفلة بل أنها تتأثّر بالحالة اللغوية العامة». (القدس العربي 8 أبريل 2019 النسخة الرقمية/ من مقال أحمد مجدي همام).
وهذه المزاوجة في الحقيقة تفهم على أكثر من وجه، وكل وجه من وجوه القراءة لا يخلو من وجاهة، على اعتبار أنّ هذه العامية تكاد تصير هي الوجهة التاريخية للغة في كل البلاد العربية ولم يعد ثمّة مجال لتجاهلها أوالتعالي عليها أو ازدرائها، فنكرانها لا يغيّر من واقع وجودها شيئًا سيما في ظل نوع من «البلاغة الرقمية» الجديدة التي فرضت نفسها بديلًا للتواصل، ولعلّي أرى جيل الستينات والسبعينات من أمثالي يشعرون بكثير من الاغتراب في التعاطي مع هذه اللغة ويشعرون بهوّة حضارية مربكة أثناء محاولة الاقتراب من خلال هذه الأنساق اللسانية الزاحفة، ولا يمكن أن يفهم هذا الانخراط لبعض الروائيين والكتاب في التعامل مع اللغة المحكية بجرعات مختلفة، إلاّ على أنّه التكيّف مع دكتاتورية الراهن اللغوي بمنطق الانصياع والمسايرة.
وهذا الإشكال يصير أكثر إيلامًا إذا تعلق الأمر بأهل اللغة العربية وممتهنيها من الأكاديميين ورجال البحث والأدب، ولعلى أسمح لنفسي هنا بالتحدّث بلغة العارف قليلاً بهذه اللغة، فكثيرًا ما ينتابك الإحساس في درس اللغة العربية مع الطلاب داخل الفصل على أنك داخل مخبر تمثّل عتبته حدّا حضاريًا فاصلاً بين عالمين، فبمجرد أن يجيز الطالب رجله إلى داخل هذا المخبر حتى يجد أمامه كائنًا متحفيًا اسمه مدرّس العربية يقترب في رمزيته من تمثال أبي الهول أو أهرامات الجيزة أو غيرها من العلامات الممتدة وجدانيًا في الأنفس والتاريخ ولكن لا أثر فعلي لها في واقع الناس.
ربما يقوى الأستاذ بحكم الاختصاص على تقمص دور الكائن المتحوّل، لكن المتعلم يجد نفسه في منطقة خارج التغطية تمامًا ولا تلتقط مجسّاته غير إشارات ضبابية تشبه أشياء كثيرة عنده ولكنها لا تتواءم معها على الوجه المطلوب وهذا ناتج بالأساس عن هذه الازدواجية في مستويات اللغة عنده، يعرف شالز فرجسون الازدواجية كالتالي: «هي حالة لغوية مستقرّة نسبيًا تتمثل في وجود لهجات محكية إلى جانب مستوى رفيع ونمط منطقي عال تنحرف عنه بدرجات ومقادير وتكون نسبة كبيرة من المكتوب في اللغة بالمستوى العالي (الفصيح)» (مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب المجلد 4 العدد 1 -2007/ ص167) وهذه المستويات التي يتحدّث عنها فرجسون هي بالفعل ما يسبّب هذا التشويش بين المعلّم الذي يفترض أنّه مالك لهذا الذي أسماه بـ«المستوى العالي»، ويحاول أن يؤثّث فضاء فصله وفق مقتضيات هذا التصور اللسانيّ، وبين المتعلّم الذى يدخل الفصل ومضادّاته اللغوية تشدّه إلى عالم لساني آخر.
فهل يمكن اعتبار كل هذه المآزق التي ذكرنا، مسوّغات حقيقية للنزول قليلا من ربوة الفصحى العالية ومقولات الهوية والقومية والقبول بمساحات لسانية بديلة حفاظًا على الفصحى ذاتها؟
المدافعون عن خط التلهيج كثيرًا ما يحتجّون بأنّ اللغة العربية حتى في أوج سطوتها لم تكن بمنأى عن تأثيرات هذه التحوّلات بموجب التثاقف والتبادل البينى بين الألسن والأعراق ويستشهدون في ذلك بما قاله أبو عثمان الجاحظ: «ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الأعراب فاٍيّاك أن تأخذها مع إعرابها ومخارج ألفاظها فاٍنّك إن غيّرتها بدأت تُلحن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولّدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطُغّام فإيّاك أن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخيّر لها من فيك مخرجا سريّا، فإنّ ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها ومن الذي أريدت له ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها» (البيان والتبين طبعة القاهرة الجزء /ص 111) رغم أن هنا الاحتجاج لا يخلو من توظيف لم يراع السياقات الحضارية واللسانية عصرئذ باعتبار الفصحى في زمن الجاحظ لم تكن بعيدة الشُقّة عن العاميّة وأكثر حديث الجاحظ في هذ الموضع كان عن اللحن والإعراب وهي أخطاء تقعيدية متعلّقة بنحو اللغة وصرفها بالأساس وهذه الاعتبارات تغيب في العامية غير المحكومة أصلا بمورفولوجيا الفصحى ونحوها، فإذا كان اللحن في زمن الجاحظ في رفع أو نصب يمثّل نادرة من النوادر الباعثة على الإضحاك، فلا تسل إذن، عن زماننا وفنون الضحك حدّ الشهيق.
وعودًا على رواية «ميّت حيّ» للكاتب محمّد معلّى فإنّنا نقول أن هذا النصّ هو ابن بيئته وابن زمانه وابن صاحبه أيضًا، فمحمد معلّى مسهب في استعمال العاميّة في بعض خواطره ويرخّص لنفسه أن يجعلها لسان حاله هو، لا لسان حال شخصياته كما هو الحال في«ميّت حي»، وإن كنت أجد محمد معلّى الذي يرضيني أحيانًا في مقاماته التي بقيت وجهًا من وجوهه الرقميّة.
ولو تحدثت بمنطق المتذوق فإنّي أرى الكاتب محمّد معلّى اقترب كثيرًا من طقس محمود المسعدي وتجربة الحس عند البطل أبي هريرة وهو يفني ظلمة وتفنيه، يقول الراوي: «ثمّ ارتميا على الفراش، مزّقها ومزّقته، جسدان ملتهبان ينتفضان يرتفعان وينخفضان انتفاض الروح بين السماء والأرض، احترقا في توحّدهما، تطهرا من أدران السنوات، أفرغ جسده في جسدها، أسالت روحها في روحه حتى هدأ روعهما» (الرواية ص 98).
مشهد أثير يسري في كامل المشهد الإبداعي التونسي في السينما والأدب عموما، لكنّه مع ذلك امتحان حقيقي نختبر خلاله استيتقا التناول وفن المعالجة الأدبية لروتين الجسد وحموة المشاعر الأزلية التي لا تعرف الموت.
اختبار أراد محمّد معلّى خوضه في طقس من الترميز والإيحاء على طريقة الظلّ أو الخيال المنعكس على الجدار دون سفور كبير ولعلّه يستحضر في ذهنه خطورة التعرّض لمنطقة الضغط المرتفع هذه وما قد تحدثه من اهتزازات، طريق عبرها من قبله المسعدي والطيب صالح وحنّا مينا وعبد الرحمان منيف والنوري بوزيد وفريد بوغدير ويوسف شاهين وغيرهم كثير ممن ركبوا المغامرة ونجحوا في ذلك بمقادير.
أردت أن أسوق هذا الرأي حول مشهد اللقاء العاصف بين حفّار القبور ورفيقة دربه وهما يغالبان الموت، مشهد مهدت به للرأي الذي يقول بأن التعويل على العاميّة شكل آخر من أشكال الهروب من مواجهة الفصحى ونوع من أنواع استسهال الكتابة، فمحمّد معلّى لا يلوح من طينة أولئك الذين يفرّون إلى العامية فرار العاجز، إنّما هو على رأي الأستاذ محمّد الخبو يرفض التسلّط على الشخصية، لكن مع ذلك يبقى لأعلام الأدب الحديث موقف فيه انتصار للفصحى وتأكيد على أنّ الصنعة الحقيقية تكون في صنع النصّ باللغة التي تستوعب الواقع استيعابا جماليا ولا تنزل إليه وتسقط في ابتذاله يقول محمود تيمور أبو القصة الحديثة: «إنّ الواقع عند الكاتب الفنّي ليس مجرّد نقل أصمّ لما هو في الخارج من مسموع ومشهود كما تسمعه الآذان وتراه العيون بل هو في الحقّ الشعور بالواقع وتمثّله، والتعبير عنه بمخيلة المؤلف».
حنا مينا نفسه لا يجد حرجًا في اعتبار التلهيج شكلا من أشكال العجز يقول: «العجز كامن في الروائي أو القاصّ وليس في اللغة فالروائي الممتاز يستطيع أن يطوّع لغة الحوار بالفصحى لأدق أغراضه وألصق تعابيره في الإحساس بالبيئة لأنّ لكل كلمة عاميّة جذرًا في الفصحى ومع التدبير والمعاناة يمكن الملاءمة وإدارة حوار فصيح تخاله عاميّا لأنّ هذا من الكلام الذي يتداوله الناس لكنّه مهذب منتقى محذوفة منه الأحرف التي أدخلتها عليه اللهجات المتعدّدة، فإذا قرأه العامل شعر أنّه كلامه واذا قرأه المثقف لم ينكره ولم ير فيه شيئا غريبا عن لغة الكتب، وبذلك نرفع العامل والفلاّح إلينا فلا نتقعّر ولا نبتعد عنهما ولا ننزل إلى أخطاء اللغة التي نزلا إليها ونزلنا في كلامنا العادى إليها».
ويستعمل الكاتب ناصر عراق مصطلحا آخر لا يختلف عن العجز الذى استعمله حنّا مينا، فهو يعتبر اللجوء الى العامية نوعا من قلّة الحيلة يقول: «باختصار انّ الذؤ يستعين باللهجة الدارجة دوما في كتاباته الصحفية أو الأدبية هو شخص قليل الحيلة لغويا يهرب من مهمّة نبيلة وحتمية…مهمّة صناعة لغة فصحى جديدة تتواءم مع عصر التكنولوجيا وتلبى أشواق الناس وكلذ ما هو مثير وبديع وفاتن وهو أمر مؤسف على كل حال..» ( مجلة اليوم السابع /22 أغسطس 2009)
«هيّا نشتري شاعرًا»
هو عنوان لرواية للبرتغالي أفونسو كروش، تدور أحداثها في عالم الأرقام والحسابات والمعادلات الرياضية وأسهم البورصات، في عالم لا مكان فى الفنّ والجمال والشعراء، ومن أراد شعرا بمكانه أن يحصل عليه من متجر من المتاجر المتخصّصة، صورة سريالية لكمّها معبرة عن اغتراب الفن والأدب، بطلة الرواية طلبت من والدها أن يشتري لها شاعرا ومن هنا تبدا الحكاية.
احتكاك الفتاة بالشاغر غيّر فيه أشياء كثيرة ولم تعد كالماضى ونتقلت اليها لعنة الشعر..خلال الرواية يمرّر الكاتب تصوّره لشعرية العالم وقدرة الشعاعر والشعر على تقديم الحلول لعالم موغل في الاغتراب والرقمية.
روايةجميلة أسوقها في معرض حديثى عن التلهيج ورواية ميّت حيّ للكاتب محمّد معلّى، هذا العالم الذى تصوّره الرواية أراه ممكنا، والتلهيج واحد من العوامل التي ينبغي التحوّط الشديد في التعامل معه لا لأنّه خطير على الفصحى فقط، بل لأنّه يقع التعامل معه باستسهال شديد سيزحف حتما على أدبية هذا العالم وشعريته ولن نجد حينها محمّد معلى لنشتريه من الأسواق.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست