اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين، وآخر دين بلا عقل
نبذة سريعة عنه([1]):
ولد بمدينة المَعرى بالشام من أبوين شريفيّ المقام.. أُصيب بالجدري في صغره فراح بصره، وكان لا يعرف من الألوان إلا الأحمر، حفظ القرآن صغيرًا وعلمه أبوه العلوم الدينية من الفقه والحديث، وأتقن نظمَ الشعر واللسان المبين، سافر من معرة صوب إحدى بلدان الشام الأُخرى، ومكث بإحدى الأديرة يدرس الكتاب المُقدس بعهديه القديم والجديد، ثم انتقل بعد ذلك إلى كعبة العلم والعلماء وقتها- بغداد، وهو مُتشبع بالعلوم والديانات كافة، بدأ يتردد عليه الظامئون لعلمه، وبدأ يقطع شوطًا كبيرًا في دراسة الفلسفة اليونانية والهندية السنسكريتية.
وبعد أن علا كعبه في العلم بدأ يتردد على دار أبي أحمد بن محمد بن الحسن البصري، وكان حفيد الحسن البصري قد أعد داره لاستقبال علماء ومثقفي عصره كالصالونات الثقافية في وقتنا الحاضر، وسجلت صفحات التاريخ الكثير والكثير من المناوشات والآراء التي حوتها جدران ذلك الدار، سواء بين المعري، وأبي أحمد، أو بين المعريّ والشريف المُرتضى صاحب كتاب نهج البلاغة.
وعاد المعريّ إلي المَعرى – مدينته الأم – بعد موت والدته، وحبس نفسه في داره، إلى أن لُقب بأسير المنزلين؛ العمى والبيت. كان المعري صوام قوام، فكان يصوم أغلب السنة ولا يُفطر إلا في العيدين، وكان دائم قيام الليل لا يقنط من ذلك، وكان لا يأكل اللحوم حيث كان يرى أن ذلك يُعد اعتداءً صريحًا على حق الحيوان([2])!
وبعد أن هرم المعريّ وجار عليه العجز وخطت الشيخوخة ملامحها عليه مات وحيدًا في داره دون زوج أو ولد، واجتمع على قبره ما يقرب من 108 شاعر.. أغلبهم من العُلماء والصوفيين.
الاختلاف عليه:
اختلف الناس حول أبي العلاء المعريّ، فمنهم من قال إنه زنديق ملحد كقول أبي الفرج ابن الجوزي البغدادي: زنادقة الإسلام ثلاث؛ ابن الراوندي، أبو العلاء المعريّ، أبو حيان التوحيدي([3])، ومنهم من رأى أن شعره كالشعر الصوفي يحمل معنى ظاهري والآخر باطني، ومنهم من رأى أن هناك افتراء واضح عليه وأن بعض شعره مدسوس، ومنهم من لجأ إلى تبرئته كالدكتور طه حسين في كتابه (مع أبي العلاء)، حينما تحدث عنه بأنه فيلسوف توصل لله بعقله وعرف أن الدنيا هي موطن الشرور وأن الآخرة هي الحياة الحقيقية، وأن الموت بداية لتلك الحياة.
لا يخفى على أي مُطلع انتقاد المعريّ لبعض المظاهر الدينية الموجودة سواء عند المُسلمين والمسيحيين واليهود، فعند المُسلمين قال مُنتقدًا فكرة لثم الحجر الأسود ومدى مشابهتها للوثنية: واعجباه! كيف يتيه عن الحق البشرُ، وفي المسيحية واليهودية انتقد فكرة الإله الذي تسري عليه عوامل الإنس من الجوع والعطش والبطش والألم([4]).
وكان لأبي العلاء المعريّ – من دراسته للفلسفة اليونانية – آراء عدة حول فكرة نشأة الكائنات الحية، فنراه يتفق مع أرسطو في قوله إن الإنسان حيوان مُستحدث من الجماد فيقول:
والّذي حارَتِ البَرِيّةُ فِيهِ حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ.
وقال مُتحدثًا عن فكرة آدم وبداية الخلق:
وَما آدَمٌ في مَذهَبِ العَقلِ واحِدًا وَلَكِنَّهُ عِندَ القِياسِ أَوادِمُ.
فقد كان يرى أن آدم ليس بواحد، وليس أول البشر، وإنما هو أول المؤمنين.
وكان له في التاريخ حظ وافر، فقد صاغ آراءه التاريخية في قوالب شعرية بجانب كتبه، فقال مُدافعًا عن الإمام عليّ وسيرته العطرة([5]):
وعلى الدّهْرِ مِن دماءِ الشّهيدَيْـ … نِ علِيٍّ وَنَجْلِه شاهِدانِ
فهُما في أواخرِ اللّيْلِ فَجْرا… نِ وفي أُولَياتِهِ شَفَقَانِ
ثَبَتَا في قَميصِهِ ليَجيءَ الحَشْـ… رَ مُسْتَعْدِيًا إلى الرّحْمنِ
الخُلاصة:
مما لا شك فيه أن أبا العلاء مَثله مَثل شخصيات وفلاسفة كُثر دارت حولهم صراعات الكتب والأقلام، وتزاحمت الآراء، وتشاكست الأفكار حول هؤلاء، وهكذا هو الحال مع الفلاسفة والمُفكرين.. أن لا اتفاق عليهم، بينما يرى المُثقفون أن أبا العلاء هو الفيلسوف البلاغي الذي لم يحظ التاريخ الإسلامي بمثله، يرى الأصوليون الدوغمائيون أنه زنديق فاسق.
ولكن ما لم يختلف عليه كلاهما أن بفضل هذا الرجل الأعمى شهدت أوروبا في عصر النهضة والتنوير أبهى الموسوعات الأدبية والشعرية، فقد ألف دانتي الإيطالي (الكوميديا الإلهية) في قالب شعري ثائر على النص اللاتيني، وهذه الكوميديا ليست سوى اقتباس صريح وواضح لرسالة الغُفران لأبي العلاء المعريّ، ففي كتاب أبي العلاء (رسالة الغُفران) يمزج بين الخيال والجرأة في قالب شعري يخطف الأذهان، فيحكي الكتاب عن شاعر صعد للسماء ورأى شعراء الجاهلية في الجنة مثل امرئِ القيس وغيره، ويبدأ المعريّ –الكفيف- في وصف الجنة وألوانها واخضرارها وطعم الخمر والحياة هناك وصفًا كأنه اخترق عنان السماء ورأى ما خلف الستار، ويبدأ بعرض إمكانياته الشعرية والنحوية في معارضاته – فن المُعارضة([6]) – لشعراء الأقدمين ليُقدم نموذجًا شعريًا أفضل بكثير من ناحية الوصف والشكل منهم.
وللمعريّ كتاب آخر أثار الجدل، وهو (فصل الآيات) والتي يسرد فيها المعريّ كمًا من الحِكم على وتيرة النَظم القرآني، فحكم عليه الكثيرون بالكفر والهرطقة لأنه حاول سرد حكِمه بنفس النظم الموسيقي للقرآن. وقد يخطر في بالك عزيزي القارئ سؤال عن السبب وراء فعل أبي العلاء مثل ذلك؛ أقول لك بأن فكرة معجزة القرآن اختلف النظر إليها من زمان لآخر، فبينما كان يراها المفكرون في القرن الأول والثاني الهجري بأن معجزته تكمن في أسلوب سرده كما قال الجاحظ، رأى أبناء عصر المعريّ كالإمام المُرتضى – من أئمة آل البيت – أن المُعجزة في غير ذلك وليست قاصرة على أسلوب السرد القرآني وإنما المُعجزة أبعد من ذلك([7])، وحاول المعريّ إثبات صحة نظريته بذلك الأسلوب، إلا أنه فشل مثلما فشل ابن المُقفع أديب اللغة العالمي.
ويبقى لك الحُكم أيها القارئ.. ولكن عليك أن تقرأ عن أبي العلاء ما ذُكر في كتاب:
1-تاريخ الأدب العربي لمصطفى صادق الرافعي.
2-تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات.
3-مع أبي العلاء لطه حسين.
وفي الأخير أترك لك بعض الأبيات الفلسفية الصوفية لأبي العلاء في معنى الصلاة الحياة ومُناجاة الله:
إذا مدحوا آدميًّا مدحـ … ـتُ مولى الموالي ورب الأمم
وذاك الغني عن المادحين … ولكن لنفسي عقدت الذمم
ومغفرة الله مرجوة إذا … حُبست أعظمي في الرِّمَم
مجاور قوم تمشَّى الفنا … ء ما بين أقدامهم والقِمم
فيا ليتني هامدًا لا أقوم … إذا نهضوا ينفضون اللِّمَم
ونادى المُنادي على غفلة فلم… يبق في أذن من صمم
وجاءت صحائف قد ضُمّنت … كبائر آثامهم واللَّمم
فليت العقوبة تحريقة فصاروا … رمادًا بها أو حُمم
رأيت بني الدهر في غفلة… وليست جهالتهم بالأَمم
فنسك أناس لضعف العقول … ونسك أناس لبُعد الهمم
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست