أن تشارك في مؤتمر علمي فيمر مرور الكرام بلا ضجة إعلامية، وصخب دعائي بالرغم من قيمته العلمية، وعراقة القائمين عليه، فهو أمر يندر في الساحات الأكاديمية لا سيما العربية منها، التي تحرص على الزخم الإعلامي أكثر من القيمة العلمية، والتي تحرص على سرد الإنجازات الخطابية في الوسائل الإعلامية.
لكن مؤتمر تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها نظرة نحو المستقبل، كان مؤتمرًا فريدًا من نوعه ليس لأنه بدأ وانتهى بعيدًا عن الضجيج الإعلامي الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، بل كان فريدًا في قيمته العلمية؛ إذ تناول 20 بحثًا علميًّا، كان معظمها من شباب الباحثين، وهذا أمر فريد، فقد عرفت المؤتمرات العربية بتقديم القامة العلمية على القيمة العلمية.
ولكن أكثر ما تميز به المؤتمر هو تواضع العلماء الجم، فقد كانت مشاعر الحب والأخوة هي السائدة بين اللجنة المنظمة، والمتحدثين الرئيسيين بما فيهم من قامات علمية، وما لديهم من خبرات عملية وعلمية، وبين شباب الباحثين، حتى أنك تظن أن شباب الباحثين هم الخبراء والمتخصصون، وأن كبار المتحدثين، هم الشباب الحريص على التعلم، تجد هذا في إصغائهم الجم، واهتمامهم الشديد بالاستماع إلى الملاحظات، والاقتراحات والأفكار، والنقد.
تجدهم في نصائحهم وتشجيعهم للمشاريع الفكرية، والعلمية، لقد كانوا يتعاملون مع الباحثين من منطلق الأبوة الحقيقية قبل الأبوة العلمية، ما رأيت من أحدهم ولو عرضًا أنفة أو إعراضًا، تأخذ من وقتهم ما تشاء وتقتحم عليهم الجلسات كيفما تشاء، فقد كانوا على مدار أيام المؤتمر بابًا مفتوحًا لمن يريد أن يغرف من علمهم الغزير، وأخلاقهم الدمثة.
أما عن تواضعهم فحدث ولا حرج، فأنت مثلًا إن لم تحضر الجلسة الافتتاحية، ولم تستمع إلى الكلمة القصيرة لرئيس اللجنة المنظمة ورئيس مجلس الإدارة لمؤسسة العربية الدكتور محمد آل الشيخ، فأنت بكل تأكيد لن تتعرف إليه وستظن بكل تأكيد أنه أحد الموظفين القائمين على المؤتمر من كثرة حركته وعمله بين الجلسات، والأوراق التي بين يديه، فضلًا لعدم وجود كراسي مخصصة أو محجوزة لكبار الحضور.
أما في جلسات الغداء والفطور والعشاء تتحول إلى جلسات علمية، أو قل حلقات نقاش مثمرة مفعمة بروح الفكاهة، بين الشيوخ والشباب، لا تعرف الحواجز المصطنعة، بل تقوم على البساطة والتقاليد العربية القائمة على حسن الضيافة، والمسامرة.
يكفي أن أقول لك أن من هؤلاء القامات العلمية الدكتور عبد الرحمن الفوزان، والدكتور محمد عبد الخالق، والدكتور محمود إسماعيل الصيني، والدكتور عبد العزيز العصيلي، وغيرهم الكثير والكثير.
قد أكون أفدت من أبحاث المؤتمر علميًّا، ولكن بلا شك فقد تعلمت من شيوخي الذين كنت أحبهم في الله من دون أن أراهم، الإخلاص في العمل، والحرص على التعلم قبل التعليم، وربما هو السر الحقيقي في انتشار كتاب العربية بين يديك في العالم بهذا الشكل، فما كان لكتاب العربية بين يديك أن ينال هذه المكانة العالمية إلا بالإخلاص في العمل، والصدق في النوايا، وما كان ليسود هذا الحب الذي غمر المؤتمر أفرادًا وجماعات إلا بتواضع هذه القامات التي أسأل الله تعالى أن يطيل في أعمارها، وأن يبارك في أعمالها، ما كان لهذا المؤتمر لينجح لولا حماسة الشباب من المنظمين الذين كان جنودًا خفية تعمل في صمت دون أن تشعر بها.
طبعًا لن أتحدث عن الكرم التركي، الذي غمر الجميع حتى أن رئيس بلدية أسكُدار دعا جميع الحضور، أكثر من 300، للعشاء في أحد المطاعم الشهيرة المطلة على البسفور.
حقيقة أن من يعمل لخدمة الأمة يبذل بسخاء ونفس راضية، لذا يبارك الله تعالى فيما بذل، فأسأل الله تعالى أن يبارك في الجميع، وتحية حب وتقدير، لكل من أسهم في نجاح هذا المؤتمر من منظمين ومشاركين، داعيًا الله تعالى أن يوفقهم لما يحبه ويرضاه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست