سأل رجل في حياة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن هؤلاء الآيات: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، “فأولئك هم الظالمون“، “فأولئك هم الفاسقون”؟ فقيل ذلك في بني إسرائيل؟

قال حذيفة رضي الله عنه: ” نِعْمَ الإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ كَانَ لَكُمُ الْحُلْوُ وَلَهُمُ الْمُرُّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَتَّخِذُنَّ السُّنَّةَ بِالسُّنَّةِ حِذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ“.
تذكرت هذا الحديث، وأنا أقارن ماضي اليهود بحاضر العرب اليوم..

 

لقد كان اليهود قبل بعثة المسيح عيسى عليه السلام يعيشون في حالة متردية جدا: دينيا وأخلاقيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وذلك بسبب انحرافهم عن وحي السماء، الذي أدى إلى فسادهم وانقسامهم إلى عدة فرق مختلفة ومتصارعة، ابتعدت كثيرا عن حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليه السلام.

بلغ هذا الوضع البائس لليهود مداه، في ظل حكم ملكهم الطاغية هيرودوس أنتيباس، والذي كان يعمل لمصلحة الإمبراطور الروماني أكثر من العمل على مصالح اليهود.. ويتمسك بقوانين روما أكثر من تحكيمه لشريعة موسى عليه السلام.. ويحاكي ظلم وجبروت الأباطرة الرومان حتى إنه قتل نبي الله يحيى عليه السلام لإرضاء رغبة ونزوة امرأة فاجرة.

 

في هذه البيئة الفاسدة انقسم المجتمع اليهودي في أورشليم إلى طوائف وفرق. فقد كان الفريسيون يمثلون الجماعة السلفية المحافظة على مظاهر التدين، ولكنها كانت في حقيقة الأمر متمسكة بحرفية الناموس، مفرطة في حقيقة الدين، مشتهرة بالرياء والكبر وازدراء عامة اليهود.

أما الصدوقيون فقد كانوا الوجه العلماني الثري الذي لا يؤمن باليوم الآخر، وكان أكبر همهم هو الحصول على أكبر قدر من المكاسب الدنيوية، التي لم تكن لتتحقق إلا من خلال ذلك النظام الفاسد الذي كانوا يمثلون فيه الطبقة العليا، المهيمنة على مفاصل المال والأعمال فيه.

 

أما الكتبة والعلماء والقضاة، فقد كانوا يتولون تفسير الشريعة، وتوجيه العامة، بما يخدم مصالحهم الشخصية المرتبطة بمصالح النخبة المتنفذة من الصدوقيين والفريسيين، يساعدهم في تنفيذ تلك التوجيهات الجند الهيروديسيون الذين كانوا يخدمون أهداف هيرودوس بكل تفانٍ وإخلاص حتى لو تعارض ذلك مع شريعة موسى وحكم التوراة.

كان هذا الوضع يستفز مشاعر الصالحين من عامة اليهود، فظهرت منهم طائفة من الأتقياء (الآسينيين) وعلى رأسهم يحيى عليه السلام، حيث يئست من إصلاح هذا الوضع الفاسد في أورشليم، فاعتزلوا في البرية، وتفرغوا للعبادة والدعوة، واجتهدوا في عمل الخير ومساعدة المحتاجين، وركزوا على نقد القيادات السياسية والدينية الفاسدة والمنحرفة عن وحي السماء.. لكن رغم سلمية هؤلاء الأتقياء، وإخلاصهم وصدقهم؛ فإن الأمر انتهى بهم إلى السجن أو القتل كما حصل لنبي الله يحيى عليه السلام.

 

 
وأمام انسداد سبل الإصلاح، وتنامي الفساد، وازدياد الانحراف، تفجرت ثورة مسلحة قامت بها طائفة سميت بالغيورين، آمنوا بأن التغيير لن يتم إلا عن طريق العنف، حيث لجأ هؤلاء للقتل والاغتيالات، وسببوا الكثير من المتاعب لنظام الحكم والمجتمع على حد سواء.

 

 

في ظل هذه الأوضاع، كان غالبية العامة، الذين وصفهم عيسى عليه السلام بأنهم “خراف بني إسرائيل الضالة”؛ يعيشون حالة من التيه، وينتظرون المخلص المنتظر الذي سوف يخلصهم مما هم فيه من الذل والمهانة، ويقضي على هذا الظلم والاستبداد، ويقيم معالم الدين، وينقذهم من تسلط الرومان وعملائهم.
في هذه الأثناء، بعث الله عيسى عليه السلام ليكمل مسيرة الأنبياء من قبله، ويصلح ما فسد من حياة بني إسرائيل.

 

لم يبدأ هذا النبي الملهم بمهاجمة الرومان المستعمرين، ولا محاربة الغيورين الإرهابيين..كما أنه لم يلم الآسينين الأتقياء على عزلتهم، ولا العامة البسطاء على سلبيتهم.

وإنما اتجه إلى أصل الفساد، وأس البلاء.. إنهم الملأ داخل مجتمع اليهود، الذين يمثلون النخبة المتنفذة، من الفريسيين والصدوقيين والقضاة والهيروديسيين الذين سماهم “الحيات وأولاد الأفاعي”.. فهم من غابت عن بصائرهم حقيقة اليوم الآخر، وحقيقة الجنة والنار، فاهتموا بالمظاهر، وأهملوا السرائر، وحللوا الكبائر، ولبسوا على الناس الدين، وبرروا الاستبداد، وولغوا في حقوق الضعفاء، وأكلوا أموال الناس بالباطل.

واستطاع عيسى عليه السلام بصدقه وإخلاصه وحسن خلقه، وقبل ذلك وبعده اتصاله بالسماء؛ أن يؤثر في شريحة كبيرة من اليهود، واستطاع أن يستقطب الآسيني العابد، والهيروديسي العشار (جامع الضرائب)، والغيور القاتل، إلا أن طبقة النخبة المتنفذة، والمنغمسة في مستنقع الفساد، وقفت في وجه هذه الدعوة الإصلاحية، بل قررت التآمر على هذا المصلح الملهم، والناصح الصادق.

 

وبالفعل بدأت خطوات تنفيذ المؤامرة، بدأت بتشويه سمعة عيسى عليه السلام، مرورا بإلصاق التهم المختلفة، وانتهاء باستصدار حكم الإعدام عليه. لكن تخطيطهم الخبيث فشل، ومكرهم بار، فنجاه الله منهم، لأنهم لم يدركوا سنن الله في الخلق، وقدرته في الكون، واعتمدوا على ذهبهم الرنان.. فقد تحققت فيهم سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل، وأصبحوا – في غضون سنوات معدودة – بين قتيل وأسير ومشرد، على أيدي أسيادهم الرومان، يستوي في ذلك حاكمهم قبل محكومهم، وقويهم قبل ضعيفهم، وغنيهم قبل فقيرهم، وصالحهم قبل فاسدهم.. وأصبحت أورشليم أثرًا بعد عين، ومعبدها خرابًا بعد عمار.

إننا عندما نستحضر هذه الصورة التاريخية الخاصة بالمغضوب عليهم من أهل الكتاب، والذين تحقق فيهم وعد الله سبحانه وتعالى، فضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، إلا بحبل من الله وحبل من الناس؛ فإننا نهدف لأخذ العبر، فليس هناك “شعب الله المختار”، ولا أمة في مأمن من عقوبة الله إنْ هي خالفت سنة الأنبياء، ووحي السماء.

 

لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وتأخذ بما أخذت به فارس والروم. ففي البخاري ومسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: «فمَن؟».

وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع». فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم، فقال: ومن الناس إلا أولئك». وأخرج الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تترك هذه الأمة شيئًا من سنن الأولين حتى تأتيه».

إن الواقع العربي اليوم، لا يختلف كثيرا عن واقع اليهود في ذلك الزمان – بل قد يكون أسوأ. فصورة المرأة الفلسطينية وهي تسحل في باحة المسجد الأقصى، أو صورة الشيخ العراقي الذي قضى نحبه ساجدًا في مسجد الفلوجة، أو تلك الأرملة المصرية المكلومة والمحرومة من كل شيء إلا العفة والإيمان، أو صورة ذلك الطفل السوري البريء الذي تناثرت أشلاؤه أمام والديه؛ إنما هي صور تؤكد على تفريط الأمة في التمسك بوحي السماء، مما أدى لانتصار الشيطان على الإنسان!

 
وهذا الوضع البائس يتحمل وزره الأكبر أنظمة الدولة القطرية الحديثة، التي تنكبت طريق الوحي، وأطاعت الشيطان، واتبعت هوى النفس، فغرقت في العجز والفساد، بكل مؤسساتها الدينية والقضائية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والخدمية.. ولن يشفع لها – أمام الله وأمام التاريخ – سلبية العامة، ولا نفاق الفقهاء والخطباء، ولا دجل وتطبيل الإعلاميين والأكاديميين والخبراء ونفاقهم.

 

 

 

وإذا كان واقع العرب اليوم الذي لا يرضاه الله، يتشابه مع واقع اليهود في القرن الميلادي الأول، فإن مستقبل أمة الإسلام – كما وعد الله – مستقبل مشرق، لأن من فضل الله عليها أنها أمة لا تقوم على العرق، ولا على الأرض، ولا على المصالح، وإنما تقوم على العقيدة: “وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ”. تلك العقيدة التي جعلت الأمة الإسلامية تصمد أمام أهواء الطامعين، وغدر الباطنيين، ومكر الصليبيين، وتوحش الحشاشين، وإجرام التتار الغادرين.
وبما أن الصراع حتمي، والتدافع سنة ربانية: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”، فإن الله سبحانه وتعالى يهيئ اليوم للبشرية من ينقذها من غياهب الكفر والفساد والاستبداد، وإن ما يجري اليوم على أرض العرب من قتل وتدمير وإهلاك للحرث والنسل، ما هو إلا إرهاصات لظهور الأمة الشاهدة على الناس، وقيام مجتمعها الراشد، الذي يتحقق فيه الانسجام الكامل بين الاعتقاد والفكر والممارسة، وتهيمن فيه شريعة السماء التي تقيم العدل، وتحفظ الحقوق، وتقضي على كل قوة شيطانية تقف في طريق وحي السماء من أن يصل إلى أهل الأرض.

 

إن ما يسمى بالربيع العربي اليوم، يؤكد بأنه شتاء قارس، سوف تقتلع رياحه العاتية جذور الهوان المتمثلة في مفاهيم القومية والوطنية والقبلية والحزبية المتصادمة مع وحي السماء وحقيقة دين الإسلام العظيم، ويعقبه – بإذن الله – ربيع الأمة الواحدة.

 

فالوحي الذي جعل من المجتمع الإسلامي في الماضي مجتمعًا فريدًا، بتعدد أجناسه وأعراقه وشعوبه وقبائله، من غير استعلاء جنس على جنس، ولا قبيلة على قبيلة، لا يزال يتلى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

 
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أكرم العرب وفضلهم على الناس بحمل تكاليف هذا الدين أول مرة، فإنه قادر على أن يكرمهم مرة أخرى في هذا الزمان، وهاهم اليوم يعودون من خلال هذه المآسي إلى حياض الإسلام، ومعالي القيم من جديد.

 

 

 
وبما أن الشعوب العربية اليوم تسير في طريق العودة إلى التاريخ من جديد، فإن الفرصة لا زالت قائمة أمام النخب العربية، التي لا يزال في أنفسها بقية ضمائر حية، وفي قلوبها شجاعة تدرك العواقب، وتقدم المصلحة الكبرى، للتوبة الصادقة، والمشاركة في هذه العودة، والمساهمة في الإصلاح الشامل الذي يبنى على قاعدة صلبة تستمد مكوناتها من الوحي المعصوم، والعقول المبدعة، والقلوب المخلصة، للخروج من دهاليز الاستبداد إلى فضاءات الحرية، ومن ظلمات الظلم والفساد إلى نور العدل وهدي الإسلام، ومن سنن فارس والروم إلى سيرة أبي بكر وعمر، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
أما إذا ارتضوا أن يبقوا خارج التاريخ، فإن الله قادر على أن يختار من يقدر فضل الله وتكريمه: “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم”. ويعاقب المنتكسين عقابا لن يستثني منهم أحدًا، والعاقبة للمتقين: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

 

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

العرب, اليهود

المصادر

اليهود في العالم القديم للدكتور مصطفى كمال عبد العليم، والدكتور سيد فرج راشد
بنو إسرائيل، اندحار بعد اصطفاء للدكتور نصر الله أبو طالب
تاريخ يوسفوس اليهودي
موسوعة اليهودية والصهيونية للمسيري
سفر المكابيين
إنجيل متى
إنجيل لوقا
عرض التعليقات
تحميل المزيد