إن التحول والتغيير الجذري والإستراتيجي الذي تشهده المنطقة العربية؛ يدفع إلى الصراع بالضرورة بين قوى التغيير الطامحة له من جهة، وبين القوى المضادة للتغيير من جهة أخرى، والتي تسعى للمحافظة على الوضع القائم والوقوف عقبة أمام التغيير. إن الاختبار الأصعب أمام قوى التغيير والإصلاح الثورية بعد الربيع العربي كان ومازال القوى المضادة، التي تشًكل التحدي الأول أمام سلاسة التغيير وديناميكيته في المنطقة، خاصة وأن تلك القوى لها باع طويل بممارسة السلطة السياسية وخبرة وقوة وإمكانات للتأثير على مسار ومخرجات التغيير.
إن القوى المضادة للتغيير والتي تشكًل قوة ودولة عميقة تتكون من شبكة من العلاقات المصلحية الفاسدة من أصحاب روؤس الأموال والعسكريين والإعلاميين والقضاة ورجال دين وبعض النخب المثقفة التي انتفعت لعقود من فساد النظام القديم والذين لا يرغبون بالتغيير، يضعون أنفسهم كليًا أو جزئيًا في خدمة المشاريع الخارجية التي تراقب بعناية ما يجري من تحولات في المنطقة، وهم يسعون إلى تكييف ما يجري لصالحهم طالما أنهم ممسكون بخيوط الأزمات، فهم لا يستطيعون الوقوف أمام حركة التاريخ، لكنهم يكيفون المخرجات وفقًا لمصالحهم الإستراتيجية والمرحلية؛ لذا هم ومنذ البداية يقفون إلى جانب أهداف الثورة، ومن ثم يُحدثون التصدعات في صفوف الكتلة الصلبة للثوار، أو يحاولون قدر المستطاع إطالة أمد المرحلة الانتقالية، أو تغيير مسار الثورة وبشتى السُبل والإمكانات والآليات الشعبية والإعلامية والسياسية والعسكرية… إلخ.
إن قيم الحرية والمبادئ الديمقراطية والإنسانية التي حملتها قوى التغيير، تتحقق بالسُبل والطرق الديمقراطية كالانتخابات والدستور والوعي والتبادل السلمي للسلطة… إلخ، وهو ما يقلق القوى ذات المشاريع الخارجية وليس قوى الإسلام السياسي التي أفرزتها الثورات فحسب؛ لأنها ضمن القواعد والآليات التي لا تضمن مصالحهم الفاسدة ومشاريعهم الفرعية، فغياب الإيمان والوعي بالديمقراطية وآلياتها وسُبلها؛ أعطى حافزًا لدى قوى الثورة المضادة باستخدام الوسائل المشروعة وغير المشروعة في الوقوف أمام التغيير؛ لتولد الثورة مع تشوهات قد تستمر لعقود.
إن القوى الثورية لم تكن مدركة لحجم وقوة وتنوع سُبل القوى المضادة في التأثير على مسار الثورة في دول الربيع العربي وإنجازاتها، كما أنها لم تفهم قواعد اللعبة السياسية التي فرضتها تلك القوى بدعم من القوى والمشاريع الخارجية، أو لم تكن لديها القدرات والإمكانات لمواجهتها بنفس الأسلوب وبنفس الطرق غير المشروعة، إضافة إلى صعوبة التوفيق بين الإرادتين الداخلية والخارجية.
أخيرًا، يمكن القول أن قوى الثورة المضادة وتحالفاتها نجحوا في إجهاض وإفشال مشروع الربيع العربي مرحليًا، لكن من المبكر الحكم على الثورات العربية بالنجاح أو الفشل الكلي، فدول الربيع العربي تواجه حالة من التفاعل المستمر والسيولة الانتقالية وقلة الكتل والقوى الثابتة التي من الممكن أن تشكل ملامح المستقبل، خاصة وأن آثار الصراع والتغيير قد خلفت مشاكل سياسية وطائفية وجماعات مسلحة؛ مما زاد عوامل وعقبات سلاسة التغيير والإصلاح.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست