«هي المواجهة من أجل الأرض، من أجل العرض، من أجل الحرية، من أجل الكرامة، من أجل السلام. ولكن المواجهة لها ضروراتها، وأعتقد أنه قد جاء الوقت لكي نكون على استعداد لهذه المواجهة. إن هناك هدفًا يتحتم علينا بلوغه في أسرع وقت؛ أن نضع الجبهة الداخلية فورًا في مستوى المواجهة. قواتكم المسلحة على مستوى المواجهة قولًا وعملًا وفعلًا، أما المطلوب اليوم فهو أن تكون الجبهة الداخلية على نفس المستوى».

***

خمس وأربعون عامًا كاملة مرت منذ وقف السادات ليلقي هذه الكلمة في الثالث عشر من يناير عام 1972، بعد أن مر عام الحسم (1971) دون حرب. جاءت هذه الكلمات لتصب الزيت على النار فتزيده التهابًا. كانت كارثة يونيو 1967 قد ألقت بظلالها على الجامعات المصرية وحركة الطلاب، وبدا أن الشارع المصري يطفو فوق بركان هائج، ينتظر الانفجار في أي لحظة منذ ثار الشباب في فبراير 1968 اعتراضًا على أحكام القضاء المتهاونة بحق قادة الطيران المتسببين في هزيمة الخامس من يونيو. مرت السنوات سريعة على السادات ورجاله، بطيئة على الشعب المتلهف للحرب، والشباب الداعي لها، هؤلاء الذين خرجوا في الخامس عشر من يناير 1972 مدفوعين بمشاعر غضب هائلة.

بدأت القصة من كلية الهندسة بجامعة القاهرة بعد أن نظم الطلاب احتجاجات موسعة؛ ردًّا على خطاب السادات وتذرعه بما سماه عام الضباب والحرب الباكستانية الهندية التي لم تمكنه من إعلان الحرب ضد إسرائيل، والسعي وراء تحرير الأرض. تطور الأمر لاحقًا لاعتصام مفتوح نظمه الطلاب؛ مما دعى الحكومة لإيفاد أحد قياداتها بالاتحاد الاشتراكي -د. أحمد كمال أبو المجد- في محاولة لتهدئتهم، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وغادر أبو المجد صفر اليدين.

في السابع عشر من يناير، نظم طلاب كلية الهندسة مؤتمرًا جديدًا طالبوا فيه الحكومة بتسليحهم وتدريبهم، مع وقف كل مبادرات التهدئة مع العدو، وقد أمهلوا الحكومة يومين للرد على طلباتهم، ودعوا السادات للحضور شخصيًّا للإجابة على تساؤلاتهم في العشرين من يناير. وقد اضطر السادات إثر ذلك لإجراء تغييرات جذرية في تشكيل الحكومة، أهمها كان منصب رئيس الوزراء، حيث عين فيه وزير الصناعة عزيز صدقي ليرأس ما سمي بـ«وزارة المواجهة الشاملة». لكن هذه التعديلات لم تُأتِ أكلها، ولم تستطع كبح جماح ثورة الشباب، خاصةً وقد رفض السادات تلبية دعوتهم، وطلب في المقابل من وزير داخليته ممدوح سالم أن يتفاوض مع هؤلاء الطلاب حتى اتفقوا في نهاية الأمر على قبول إرسال وفد مكون من 200 طالب إلى مجلس الشعب، حاملين تساؤلاتهم ومطالبهم معهم، آملين في أن يلاقوا آذانًا صاغية. لكن النتائج جاءت سلبية بعد أن خذلهم أعضاء المجلس وخدعوهم.

جاء الرابع والعشرون من يناير ليحمل مواجهات دامية بين طلبة الجامعات، والشرطة بعد أن اقتحمت قوات الأمن جامعتي القاهرة وعين شمس، واعتقلت 1500 من قادة الاحتجاجات. وحين توجه الطلاب إلى ميدان التحرير في مسيرات حاشدة التحموا فيها مع المواطنين، سالت دماؤهم بعد أن عمدت قوات الأمن لتفريقهم عن طريق استخدام الهراوات، والقنابل المسيلة للدموع. وقد استمرت التظاهرات بالرغم من ذلك حتى ظهر الخامس والعشرين من يناير حتى استطاعت قوات الأمن القضاء على حركة الشارع، وإلقاء القبض على باقي القيادات الطلابية، ليسدل الستار على ما سُمي لاحقًا انتفاضة الطلبة عام 1972.

***

لم يكن الخامس والعشرون من يناير هو نهاية الأحداث، لكنها كانت البداية فقط، فحين سقط أول شهيد في السويس كان بركان من الغضب في سبيله لأن ينفجر بعد عقود من الكمون والخمول، بدأت القصة بعدة آلاف، لكن الدماء كانت كفيلة بأن يتحول هذا الحشد إلى مئات الآلاف، ولم يكد الثامن والعشرون من يناير أن يحل إلا وكانت الشوارع مكتظة بالثائرين، شباب من كل الأعمار انضم لهم بعدها شرائح متباينة من المواطنين على اختلاف أعمارهم وتوجهاتهم. توجهوا إلى ميدان التحرير كما أخبرتهم ذاكرة التاريخ ليستكملوا ما بدأه جيل سبقهم بأربعة عقود، ويحطموا أغلالًا أحاطت بوطن، ومنعته من السير في ركب الحضارة، واللحاق بأمم سادت العالم.

وكما اعتصم طلبة جامعتي القاهرة وعين شمس من قبل اعتصم ثوار يناير 2011، اعتصموا حتى أثمر اعتصامهم هذه المرة، واستطاعوا أن يزيحوا نائب السادات، الديكتاتور الذي تربع على عرش مصر ثلاثين عامًا أتى فيها على الأخضر واليابس. استطاعوا أن ينتصروا، أو هكذا ظنوا، تمامًا كما ظن أسلافهم قبل عقود يوم أن انتهت الحرب، وشاشات التلفاز تعلن انتصار الجيش المصري قبل أن تنتهي المباراة الفعلية. غادر الشباب الميدان في الحادي عشر من فبراير بعد خطاب التنحي الزائف، مثلما غادر أباؤهم الميدان بعد قرار وقف إطلاق النار -338- الزائف أيضًا. وكما ندم الآباء -بعضهم- يوم عادت سيناء اسميًّا إلى حضن الوطن، بعد اتفاقية أخذت أكثر مما أعطت، ندم الأبناء -بعضهم أيضًا- يوم عاد الوطن كله حين داست الأقدام ذات الأحذية العسكرية صناديق حوت أصوات شعب وليد، كان جُل غايته أن يتنفس رحيق الحرية.

***

لماذا اصطلح على نعت جيل الآباء بجيل النكسة؟ هل هي مجرد كناية عن الفترة الزمنية التي عايشها هؤلاء؟ أم أن السبب الرئيسي هو تخاذلهم ورضوخهم لذل دام خمسين عامًا منذ دك الطيران الإسرائيلي طائراتنا وهي قابعة على الأرض، وحتى استطعنا نحن -جيل الأبناء- أن نزيح طاغية كان جزءًا من ماضي النكسة هذا؟

لو صح لنا أن نسمي من ثار في 1968 و 1972، من انتصر في أكتوبر بعدة أعوام، ثم لم يتوان عن الانتفاضة في يناير 1977، لو جاز لنا أن نسمي هؤلاء «جيل النكسة» فماذا عساه التاريخ أن يفعل بنا؟ ماذا عساهم أبناؤنا أن ينعتوننا نحن وقد كان النصر قاب قوسين أو أدنى منا، فأدرنا له ظهورنا في غرور وصلف؟ ماذا عساهم أن يقصوا على أبنائهم؟ كيف لهم أن يحكوا لهم حكاية جيل ثار ضد الظلم والطغيان، حارب من أجل حريته، وحين نالها أتى بسجانه مرة أخرى ليحكم وثاقه؟

هل سيكون التاريخ رحيمًا بنا ليحكي قصتنا كاملة، قصة كل فرد بمفرده، حتى يتسنى لأبنائنا أن يميزوا بيننا؟ أم أنه سيفعل كما فعل مع آبائنا حين لخص قصتهم في عدة كلمات عنوانها الخذلان؟

يلح عليّ أن أسأل في خوف حقيقي، لو كان جيل يناير 1972 هو حقًّا جيل النكسة، فكيف بجيل يناير 2011؟ لو كانت لعنة يناير قد أصابت آباءنا حتى سميناهم بجيل النكسة، فهل سينعتنا أبناؤنا بنفس الاسم؟!

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد