الزمن هو اللغز الكبير الذي أرّق كبار العلماء والفلاسفة وقضَّ مضاجعهم على مر العصور. في الواقع نحن نستخدم في حياتنا اليومية مصطلحات تعبر عن لغة الموقف الطبيعي لكنها لا تمت للغة العلم والفيزياء بأية صلة. نقول مثلًا أن الوقت يمضي, وذلك لأننا نشعر بأن الوقت يجري باتجاه واحد وهو اتجاه المستقبل كما يجري الماء في النهر.
اعتبر السير إسحاق نيوتن أن الزمان حقيقة موضوعية مطلقة لا تعتمد على أي نظام مرجعي لقياسها، وأن سرعته ثابتة كثبات سرعة تدفق الماء في النهر, فهو – أي الزمان – غير مرتبط عند نيوتن بالمكان, والسرعة واحدة في أول الكون حتى آخره. لكن ألبرت أينشتاين جاء بعد لذلك ليعطي نظرة جذرية جديدة في طبيعة الوقت، حيث نفى عنه صفة «الإطلاقية» التي كانت سائدة أيام نيوتن، وأعطاه صفة النسبية، أي ليس هنالك وقت واحد بل هنالك أوقات، وذلك يعتمد على الصلة العميقة بين الوقت والحركة، حيث اعتبر أينشتاين في نظرية النسبية الخاصة، أنه كلما ازدادت سرعة حركة الشيء بدا الزمن وكأنه يمر بشكل أبطأ. اختبر العلماء في العام 1971 هذه النظرية من خلال وضع ساعة سيزيوم ذرية في طائرة نفاثة تسير بسرعة عالية ومقارنتها بساعة وُضعت على الأرض. وجد العلماءُ أن الساعتان لم تكونا متفقتين واختلفتا في بضع مئات من المليار من الثانية، لكن ذلك كان كافيًا لاثبات صحة نظرية أينشتاين، والتي تصبح أكثر فعالية على المستوى الكوني عندما نحصل على سرعات عالية قريبة من سرعة الضوء. فلو سافرت مثلًا إلى الفضاء في مركبة سرعتها كبيرة جدًا على نحو سرعة الضوء، فإن الوقت سيتباطأ بشكل كبير عندك، حيث أنه قد يمر عشرات السنين على كوكب الأرض فيما يزداد عمرك بضع دقائق أو ساعات فقط. كما ربط أينشتاين الزمان بالمكان من خلال تنظيم رباعي الأبعاد يعرف بالزمكان. هذا المفهوم الجديد دفعنا إلى الإقرار أن الماضي لم يذهب، بل هو موجود كما الحاضر وكما المستقبل، وكل أمر حدث في لحظة معينة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل موجود على شريحة من الزمكان. هذه الفكرة المذهلة جعلت العلماء يفكرون جديًا في موضوع السفر عبر الزمن.
إذًا وبالعودة إلى ما تحدثنا عنه في بداية هذا المقال، لماذا نشعر أن الوقت يتدفق في اتجاه واحد نحو المستقبل؟
في الواقع على المستوى المكاني، يمكننا التحرك باتجاه الأمام أو الخلف، أما على مستوى الزمان فلا يمكننا التحرك سوى إلى الأمام ولا إمكانية لعودة الأحداث إلى الخلف، فلماذا يحدث الأمر بهذا الشكل؟ تعتمد الإجابة على هذا السؤال على فهمنا لأحد الخواص الفيزيائية الشهيرة في مجال الديناميكة الحرارية، وهي خاصية الأنتروبيا التي تقيس الفوضى والعشوائية، فالفيزياء تخبرنا أن النزعة المهيمنة على الطبيعة هي الانتقال من النظام الى الفوضى، على سبيل المثال إن قمنا بكسر بيضةٍ في وعاء فسينتشر مُحتوى البيضة ويملأ الوعاء وسيغدو من المستحيلِ أن نعيد البيضة إلى نفسِ الشكلِ البيضوي السّابق، والأمر نفسه ينطبقُ على الكون. فكُلّما تطوّر كوننا، ازداد مقدار الإنتروبيا (أي العشوائية). إذًا لا بد أن سهم الزمن يتبع هذا الاتجاه وهو يأتي من نزعة الطبيعة للتطور نحو الفوضى والعشوائية، لكن ما الذي يجعل الماضي أكثر نظامًا؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا بد من العودة إلى الظروف الأولية لنشأة الكون أي نظرية الانفجار العظيم أو البيغ بانغ، الذي يُعتبر حالةً فيزيائية بالغة التنظيم حيث كان الكون كله متجسدًا في منفردة متناهية الصغر، وقد حدث الانفجار في حالة شديدة الكثافة والحرارة، ليولد الكون بما فيه من نجوم ومجرات، والتي تتسارع وتتباعد وتنتقل من حالة النظام إلى حالة الفوضى وقد يكون ذلك هو ما وضع سهم الزمن على مساره.
في النهاية يبقى الزمن لغزًا كبيرًا وبيقى هناك الكثير من الأسئلة التي صدعت رؤوس العلماء وشغلت عقول جهابذة الفكر والعلم والفلسفة. نحن بني البشر نعيش عشرات السنين، لكن بعض الكائنات والموجودات عمرها من لحظة ميلادها إلى لحظة زوالها قصير أكثر مما نتخيل، فالمتخصصون في الكيمياء يعرفون أن الروابط الكيميائية تحدث في مقدار فيمتو ثانية أي جزء من ألف ترليون جزء من الثانية، وأن نصف عمر عنصر البيريليوم 6 هو بمقدار خمسة زبيتو ثانية أي جزء من مليار ترليون جزء من الثانية. فيا ليت شعري كيف نحدد حاضر الأشياء إذا كان التفاوت في الأزمنة كبيرًا إلى هذا الحد؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست