“أهديها للأعزاء: الأديب والفنان أحمد مراد ود.أيمن الجندي ود.رائف وصفي (حسب الترتيب الأبجدي) فقد أرهقتهم كثيًرا طلبًا لرأيهم الصائب، لولا امتلاكهم قسطًا وافرًا من الحكمة وتذوق الفنون لكنت تركتهم في سلام”.
هكذا سطر “العراب” كما يلقبه محبوه. الدكتور أحمد خالد توفيق إهداءه على أول صفحات روايته مثل إيكاروس، وهي الرواية – الصريحة – الثالثة للكاتب الأغزر إنتاجًا عربيًّا والأول بلا منازع في أدب الرعب. أقول الصريحة لأن الدكتور لم يسمّ رواية غير يوتوبيا والسنجة ومثل إيكاروس وإن كانت أعماله الأدبية كلها بزخم الروايات ومتعتها وحلاوة كلماته، ويظل تعريف رواية وقصة قصيرة هنا مثل تعريف فيلم روائي قصير وطويل أو تسجيلي. المهم المحتوى لا التصنيف.
في الإهداء تتضح عظمة الدكتور الإنسانية والأدبية، فأحمد مراد الذي يستشيره الدكتور في روايته لا أظنه قد تخرج من الابتدائية قبل أن يخط العراب قصته الأولى، ولكن التواضع قد ذهب به أن ينهل نصحًا ممن كتب الفيل الأزرق وتراب الماس وحقق بهما مجدًا.
هنا أيضًا يظهر كعب العراب – عفوا كعب أخيل – العراب الأسطوري الذي يكتب كما نتكلم ويفرز المعلومات على الصفحات كأن جوجل يكتب، العراب يخاف من الرواية؟! أم يكرهها؟ أم لا يحبها فحسب؟! فلماذا يضن بها علينا؟
الرواية تنهك الكاتب، إنها تشبه عملية الولادة فعلا. أرق وتلبس بالشخصيات وإلغاء أحداث قديمة وسطر جديدة وانفعالات وتوتر تنتقل بين الكاتب وشخصياته، هل هذا فعلا ما أخر العراب عن الرواية وجعل إنتاجه فيها رغم روعته شحيحا؟ هل يكره عناءها؟ هل لا يطيق حرفية التفاصيل وتذكر الشخوص والأسماء والأحداث؟ هل يكره صعود الدراما الطويل المنهك؟ هل يكره الرومانسية أو البوليسية؟ لا يظهر هذا في أي من رواياته الثلاث، بل يظهر العكس؟ فلماذا؟
إيكاروس هو ابن ديدالوس، أسطورة يونانية قديمة تتحدث عن أن إيكاروس طار بأجنحة من ريش ملتصقة إلى جسده بالشمع فحذره أبوه من أن يطير قريبًا من الشمس فتصهر الشمع فيسقط، تلقف الأدباء المعنى، من اقترب كثيرًا من شمس المعرفة احترق جناحاه وسقط.
محمود السمنودي هو إيكاروس الرواية، يسرد الكاتب طفولته الغريبة التي تؤدي به إلى معرفة أسرار يجهلها غيره وتجوب به عبر التاريخ من خلال خياله وتجلب له المتاعب، وأي متاعب.
هل هي رواية بوليسية أم اجتماعية أم سياسية؟ هي خليط ما بين هذا كله طبعًا دون نسيان حس الفكاهة عند الكاتب، وهذا ما يجعل العراب مميزًا.
يستعمل الدكتور العربية الفصحى حتى أنه يوظف ألفاظًا لم يلمسها أحد من قبله ولا العتاولة منها “ولات حين مناص” وغيرها ورغم ذلك يتحاور بها أبطاله من وضيعهم لعالمهم، لا أعرف هل هذا له تأثير إيجابي أم سلبي مع موضة الكتابة بالعامية أو حتى الحوار فقط بها.
“اسمه أحمد خالد توفيق يا سادة وله أتباع من الشباب يفوقون أتباع الساسة ونجوم الغناء وكرة القدم”.
يسرد الكاتب تاريخ الجامعة السياسي بدقة خبير وبإحساس وطني رشيد يعي ما حوله، يقول عن علاقة الأمن بالإسلاميين واليساريين في السبعينات أنه مثل إضافة الملح والسكر إلى الطعام القليل من هذا وهذا ثم الكثير من هذا ليطغى على طعم هذا ثم فسدت الطبخة للأبد، حتى اضطهاد الطلبة المسيحيين علميًّا بالجامعة تكلم عنه في الرواية، هذا جراح يعرف أين يضرب المبضع.
يأخذك من الجامعة في السبعينات إلى أجواء أسطورية في مملكة ما وملكة ما يطلبها شاب من الرعية العاديين، إلى قلب أجهزة المخابرات في أمريكا مرورًا بقاعات المحاضرات بالبلد نفسها، لتسمع المثال الذي رواه كارل ساجان – لن تعرف أسماء كهذه إن لم تقرأ للعراب –يقول: “إذا فرضنا أن عمر الكون عام واحد، فمجموعتنا الشمسية ظهرت في 9 سبتمبر، بعدها بتسعة أيام ظهر كوكبنا الأرض، يوم 9 أكتوبر ظهرت البكتريا، وفي أول ديسمبر ظهر غلاف الأكسجين حول الأرض، يوم 24 ديسمبر ظهرت الديناصورات، بعدها بيوم ظهرت الثدييات، ظهر الإنسان في العاشرة مساء 31 ديسمبر، في الحادية عشرة والربع اخترع الإنسان الزراعة وجاء الفراعنة والآشوريون”.
المثال على لسان دكتور الجامعة ليريك أن الإنسان لم ير إلا ساعتين من عام كامل سبقه في خلق الكون فهل هو قادر على رؤية التطور في الأحياء وهو حي في عمره القصير.
“اسمه أحمد خالد توفيق يا سادة وهو أستاذ طب المناطق الحارة بكلية الطب جامعة طنطا ولا يحب ضجيج القاهرة ولا يأتيها إلا أيامًا معدودة”.
“النبوءات لعبة العابثين بالألفاظ التي يجيدونها جدًّا”، على لسان أحد أبطال ه.الكاتب جلاد العرافين ومدعي العلم الزائف وله مقالات تدرس في هذا الشأن، وفي الرواية التي تتكلم عن الغيب يؤكد فكرته ويسهب في نفس طريقه لرفض الشعوذة وإلقاء الكلام الذي يحتمل ألف وجه بحجة التنبؤ والضحك على السذج والنصب عليهم.
السجلات الأكاشية وهلين بلافاتسكي وكتاب ديزان عند رهبان التبت والقرد الليموري والقارة المفقودة – غير أطلانطس بالطبع – كل هذا سيمر عليك بالأحداث فتجهز لوثبات عبر الزمان والمكان.
وثبات تشمل معلومات جديدة عليك ولو كنت مثقفًا صنديدًا، الرجل بارع في هذا وأظن أن هذا جزء من نقط ضعفه كراوٍ، يوسف إدريس كان قصاصًا ونجيب محفوظ بلا شك، ولكن جرعة الفيتامينات – المعلومات – هذه في رواية واحدة حتى لا تخلو صفحة منها تقريبًا قد تتعب بعض القراء. هناك من يحب هذا، الكتاب القراء يعشقون هذا، ولكن من يحب الحكايات المسلية فحسب ستنهكهه المعرفة فعلا.
ما زالت الرواية ببساطة هي حدوتة ممتعة وأظن هذا هو سر الأساطير المصرية في هذا المجال، الوثبات بين الأغاني الأجنبية، وبين محنة المقفع في فتنة خلق القرآن، وقصف أمريكا بالنابالم لقرية ترانج بانج الفيتنامية بأطفالها، ووصف لفتاة صحفية وصفًا دقيقًا من الداخل والخارج وربط حالتها النفسية بالأدب الأوروبي وتعبيراته التي تتقافز في أدب الدكتور في سلسلاته ومنها الأشهر سلسلة ما وراء الطبيعة. وهنا تعبير “رغيف ساخن آخر يسرق من الفرن” يظهر في الرواية.
هنا تظهر قدرة القارئ على إستيعاب هذه المناورات بين الأزمنة والأماكن المختلفة وهل هو ممتع بالنسبة له أم يجده تفكيكًا لخياله يخرجه من السياق، أنا من النوع الذي يجده شائقا.
الدكتور يتكلم عن الديكتاتور والبوليس السري فتحس أنه السياسي الأبرع الذي لعب السياسة حتى ملها، حتى أنه يقترح أفكارًا خيالية للساسة كفكرته أن تطلق الحكومة دخان الحشيش في الجو حتى تغيب الناس ويكفوا عن المعارضة ويسقطوا أسرى للكيف، يقول على لسان أحد الأبطال: “في الماضي كانوا يخدرون الناس بالإعلام والأخبار الكاذبة، الآن يخدرونهم بالمخدرات صراحة”.
الكاتب هنا أيضًا يخرج من عباءة قصص الشباب الصغير التي يلتزم فيها أدبيًّا بلغة تليق بالمراهقين ولا يجد الأب والأم حرجًا بوجودها بالمنزل على حد قول إحدى دور نشرها. تراه هنا ينطلق في لغته في مشاهد حسية راقية، ليست شهوانية بالمرة ولا تقارن مثلا بأحمد مراد أو بعلاء الأسواني ولكنها في السياق كما يقولون، وتظهر موهبته في الكتابة العاطفية والاجتماعية، ليته يفرد لنا رواية دون معلومات ثقافية حتى نجازف ونقارنه بأساطين الزمن الجميل وعهدي به أنه يستطيع لو أراد.
تساؤلات الكاتب في الرواية عادة ما تكون مطروحة في الحياة سواء عن طريقه أو عن طريق أخرين، وهنا يسأل الكاتب الكبير تساؤلا كبيرا بحجمه، تساؤل يقول عنه أن كل الفنانين والعلماء مروا به ومعظم من انتحر أو جن أو هلك هلك بسببه.
سؤال المعرفة والنهم للعلم ومعرفة كل شيء عن كل شيء، كل شيء عن الماضي، وشيء ولو بسيط عن المستقبل، المعرفة التي نهل منها أحمد خالد توفيق بحورًا جعلت منه عرابا لجيل كامل ولكنه لم يحترق مثل إيكاروس بل حلق بأقل مما تسمح به جناحاه. تواضعا وطمعا في المزيد من العلم قبل أن يسقط الجناحان.
“اسمه أحمد خالد توفيق وسيكون لدينا بوكر بل نوبل مصري ثان في الرواية لو أكثر من الروايات، فالرقم ثلاثة وهو عدد رواياته لا يمثل حجمًا بالمرة من إنتاجه ولا مما يستطيع كتابته”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست