في الزمن الخطأ نلوم الأيام والليالي، وربما نلوم غيرنا ممن لا حول لهم ولا قوة بارتكاب ما تيسر من أخطاء حتى نُبعد اللائمة عن ذواتنا المقدسة، التي لا يُفترض أن تتعرض للنقص والكسور وهي – لا ريب – أصل كل بلاء ومصدر كل نصب.

في الزمن الخطأ – وهيهات أن يُخطأ – نستذكر حضارة خلت وأمجادًا انتهت لنقول للعالم “ها نحن هنا”، والصوابُ أن نقول “كنا هنا” أما الآن فنحن دمىً يحركها السيد المنتصر – أيًا مَن كان – وليس للعبد إلا السمع والطاعة، أبىَ أو أقر. وكيف يأبى العبدُ أن يخدم سيده، ويغسل أدرانهُ، ويمسح نعلهُ، ويطيعُ أوامره؟! تلك هي قوانين العبودية التي قلما تتغير لا سيما إن كان العبد حرًا أو من أبوين لم يسبق استعبادهما أو التنكيل بهما.

في”الزمنِ الخطأ” يصبحُ “الصوابُ” خروجًا عن المألوف، وردةً عن عادات المُجتمعِ وأهوائهِ التي مُنيَ بها. فإذا ما حاولتَ – مجرد محاولة – أن تُقوِّمه، رماكَ بسهامِ التضليلِ والإغواء، وأغرى بك السفهاءَ، وأربابَ التغريبِ والحداثةِ، ومدعي الفن، والعلم، والدين، والأدب؛ أولئك المرضيّ عنهم الذين تمتلئ شاشاتُ التلفاز وأجهزةُ البثِّ المختلفةِ بهم دون غيرهم، ليصبحَ الماءُ الذي ترتوي به الجماهيرُ ماءً فاسدًا لا يصلحُ للحياةِ كصلاحهِ للموت والفناء.

في الزمن الخطأ يصبح الفنَّ وسيلةً للرذيلة، وهادمًا لعرى الأسرة الصغيرة (العائلة) والكبيرة (الوطن)، لينسلخ الفن عن اسمه ورسمه ليصبح منزوع الدسم، بلا قيمة تُكتسب، ولا غاية تُرتجى. أي فنٍ في كلماتٍ تخدش الحياء، وتزينُ الفحشاء، وتشجع على الخيانة والغدر؟! هذا إن جاز لنا – بداية – أن نُطلق عليها “كلمات” وإلا فهي حروفٌ جوفاء لا ترتقي للحس السليم، ولا لموسيقى اللغة وبديع البيان، لكن عمد أصحابها إلى إفساد ما بقي من ذاكرة الشعوب من ذوقٍ، لا سيما ذلك الجيلُ الذي من المفترض أن يحمل الهم، ويقوم بالأمر، ويحافظ على ميراث الأمة، لكنه وجد ميراثًا مهلهلًا يتنازعه أبناؤه كلٌ يريد أن يأخذ حظ نفسه بنفسه، وإن استعصى عليه الأمر وانفرط منه العِقد.

في الزمن الخطأ يصبح الخطأ لا يُغتفر، وإن اعترفتَ به على الملأ وتبت منه أمام الجميع، طالما لم تشتر بعدُ بطاقات الائتمان (صك الغفران) من الكهنة، ولم تُسبح بحمد الملك غدوًّا وعشيًّا بمسبحة المادة والنفوذ أو التملق والنفاق، وإلا فأنت هالك لا محالة.

في الزمن الخطأ يصبحُ السعي على الرزق كالسعي في أرض مسبعة “مكان كثير السباع” قلما ينجو منها أحد، اللهم إلا بأحد أمرين: واسطة تأخذ بيدك (وقدمك إن استطعت) أو مال لا مُنتهى له، وإلا فقد خاب السعي وانتهى إلى اللا شيء، أو إلى اليأس والإحباط والانحراف واللامبالاة، لأن المجتمع – كما أرى – لا يُعاملْك إلا وعينهُ تتطلعُ إلى دراهمكَ وممتلكاتك، فإذا وجد منك غير ذلك احتقركَ وهجركَ على ما تمتلكه من مَحامدِ الخُلُق ومَحاسنِ السِيَرْ. فلا عجبَ إذًا أن أخالفَ مجتمعًا تلوث رداؤهُ الطاهر بمخلفاتِ الحضارات كلها.

في الزمن الخطأ يصبح الحب رفاهية، والحرب ضرورة، وينقسم المجتمع آحادًا ممزقة وأطيافًا متناحرة، ويثور المرء لقومه ويتعصب لحزبه دون الحق، وهو أحق أن يُتبع. وتُسفك الدماء باسم الشيطان، وباسم الشيوعية، والقومية، والرأسمالية، والعلمانية، وحتى باسم الرب وهو منها براء.

في الزمن الخطأ أكتبُ إلى نفسي لأضمّد جرحها الغائر ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا، وما عهدتُ الكتابة تشفي أحدًا، أو تُبرئ مريضًا، أو تُرجع غائبًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد