كما كان متوقعًا لم تتشكَّل الحكومة برئاسة سعد الحريري بعد اصطدامها بسقف مطالب بعبدا من جديد، ما يجعل أبواب البلاد مُشرَّعةً أكثر أمام الداخل والخارج.

وبحسب ما أعلن الرئيس المكلَّف من بعبدا فإنَّ المطلب الأساسي لرئيس الجمهورية هو الحصول على الثلث المعطَّل في أي تركيبة مهما اختلف عدد الوزراء. وبالتالي، نحن في دوامة مستمرة من الفشل والعجز المستمرين.

يحلو للبعض تبسيط المشهد فيختصر الصراع بالشكليات. ويذهب أحيانًا لوضع الأمور في مسارات طائفية وسياسية يُخرجها من سياقاتها الطبيعية. إذ إن اختزال مشكلة البلاد بملف الحكومة هو مُشكلة بحدِّ ذاتها. مُشكلة في القراءة والتشخيص وتقديم الحلول ومُشكلة تفكير.

فالفرز الحاصل اليوم هو داخل السلطة لا خارجها. والانقسام أصبح جليًّا بين معسكرين. أولهما، يتمسُّك بالنظام الحالي كما هو، وهو يضم حركة أمل وتيار المستقبل والقوات اللبنانية والاشتراكي، رغم التباين الأخير لوليد جنبلاط. وثانيهما، لا مانع لديه من إجراء تعديلات دستورية على الطائف، ويضم بشكل أساسي حزب الله والتيار الوطني الحر. واللافت في الأمر أن الحزب وعبر أمينه العام في خطابه الأخير بدأ يُجاهر بالأمر علنًا.

تشخيص واقع الصراع مُقدِّمة لفهم الخلفيات التي ينطلق منها كل فريق ولمعرفة سرَّ التعقيدات في الملف الحكومي. ومسؤولية التعطيل الحاصلة هي مسؤولية كلا المعسكرين. من يُحمِّل طرفًا دون آخر المسؤولية ما زال في عقلية ما قبل 17 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2019.

فمسؤولية الحكم ومسؤولية الخراب الحاصل يتحمَّلها الجميع. لا الحريري قادر على إقناع الناس بأنه شخصية تكنوقراطية قادرة على تحقيق الإصلاح، ولا عون مُؤهل لأن تُصدِّقه الناس بأنه عازم على إجراء تغيير حقيقي في آخر سنوات عهده.

ووسط هذا الانقسام هناك حقيقة واحدة وهي أن الانهيار حصل وفي عملية مستمرة كالنيران المستعرة.

يرى معسكر النظام الحالي أن التخفيف من حدَّة الانهيار كفيل بالإبقاء على الطائف وهو يتمسَّك بالمبادرة الفرنسية وحكومة الاختصاصيين كآخر حل إنقاذي للنظام. فمن دون هذا النظام لا وجود لهم أو أقله سيتراجع نفوذهم. والمبادرة الفرنسية هي خارطة طريق فعلية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لكنها تتمحور حول هدف واحد هو تعويم هؤلاء. وبالتالي، تُصبح هذه المبادرة عبئًا على الإصلاح لا مُشجِّعًا له. ومن الطبيعي أن تتمسك حركة أمل وتيار المستقبل بها. فهي الحل الخارجي بنظرهم لإنقاذ منظومتهم. الاستثناء في هذا المعسكر هو التقدمي الاشتراكي. فوليد جنبلاط يُجيد اللعب على الحبال، وانطلاقًا من بعض الفكر الأقلوي الذي يطرأ عليه في لحظات الحصار، يذهب مباشرة إلى التسوية ليحجز له مكانًا مع المنتصرين. لكن هواه يبقى قريبًا لمنظومة الطائف. أما القوات فلم تحسم خيارها بعد، لكنها بطبيعة الأمر أقرب لهذا المعسكر من الآخر.

بالطبع، المشهد كلُّه يُبشِّر بالهزائم. فحجم الأزمة اليوم ما زالت قوى السلطة عاجزة عن تفهُّمه وتقبُّله. هم يعتقدون أن الخارج سيأتي ويضخُّ الأموال وينتهي كل شيء.

لذلك، تريُّث الخارج جعل المعسكرين في حالة صراع على إدارة ما تبقى من موارد لإنقاذ المستقبل. الحريري يرى في هذه الحكومة حبل نجاة في لحظة سياسية مصيرية لمستقبله حتى ينجلي الغبار عن المشهد الإقليمي. فيما يراها باسيل جسر عبور لعودته إلى طاولة الكبار في الصالون السياسي اللبناني بعد أن هشَّمت 17 تشرين صورته.

ولا بد من بعض التفصيل هنا. ليست القضية استحقاق رئاسة الجمهورية المقبلة فقط. هذا الاستحقاق له ظروفه ووقته. ما يهمُّ باسيل في الموضوع هو طريقة التعاطي معه من قبل باقي الأطراف اللبنانية. معظم المكونات السياسية في البلد باستثناء الحزب لا يتعاطون معه بنديَّة. والعبارة الشهيرة لسمير جعجع «روح بوس تاريز» أفضل تعبير عما كان يُعانيه الرجل قبل الأزمة. فكيف الأمر الآن بعد الحراك؟!

يبحث باسيل بالدرجة الأولى عن مكان له في الصفِّ الأول. مكان يكون فيه ندًّا للباقين وهو يعرف أنه لولا الحزب وميشال عون لا أحد في البلاد يُقيم له وزنًا. لذلك يُحاول دائمًا خوض معارك سياسية كبيرة، كما حصل سابقًا مع نبيه بري، وكما يحصل اليوم مع سعد الحريري. والرجل يعتقد أن مستقبله السياسي لا يُمكن أن يبقى معلَّقًا بمصير الحزب وعون. هو يبحث عن بديل. يرى هذا البديل في حكومة يُمسك برقبتها عبر ثلث معطَّل تكون جسر عبور لنظام جديد يحجز له مكانًا فيه بين الكبار.

إذن، ملامح المعركة الحكومية هذه دلالتها الأبرز. تُحاول السلطة معًا الترويج لحكومة إنقاذ لكن أجندة عملها ذات أولويات مختلفة. واقع الأزمة يتطلَّب عقلية جديدة نظيفة وهؤلاء لا يزالون يُفكرون بمستقبلهم.

ووسط جولات الداخل هناك لا مبالاة خارجية. حاول البعض تصوير حال لبنان في آخر عامين على أنه تحت تأثير المؤامرة بسبب تدخلات الخارج. الواقع أن المؤامرة الحقيقية الوحيدة التي تعرَّض لها لبنان في آخر عامين هو تخلِّي الخارج عنه لا تدخله.

فالخارج حاليًا منقسم بين رؤيتين: الأولى تحذيرية تقودها فرنسا وتُهدِّد بفرض عقوبات. وهي أجندة خارجية لها صدى وسط المتمسكين بالمبادرة الفرنسية. لكن تأثيرها ليس بالفعالية ذاتها على كافة المنظومة.

والثانية، حالة الترقب الحاصلة بين إيران وأمريكا للوصول إلى اتفاق نووي جديد. وأصبح الربط بها كبيرًا جدًّا من قبل الحزب والتيَّار والرهان على تغييرات جذرية طويلة الأمد كتغيير النظام.

وكلا الرؤيتين أقرب لتوصيف اللامبالاة.

ولحين بروز أي متغيِّر، لا بد من صولات ومعارك. لا يتغير نظام في لبنان إلا بعد جولات انهيار. وفي آخر حقبات أي نظام يبدأ القوي بالتغلغل داخل مؤسسات الحكم. هذا ما حصل عام 1989 عندما انهار نظام 1943. لحظة بدء الانهيار كانت في 1975 وانتهت بولادة نظام جديد عام 89، واستغرقت عملية الانهيار حوالي 15 سنة.

15 عامًا من استنزاف قدرات النظام السابق حتى يتأمَّن ولادة نظام آخر. ليس بالضرورة النظام الجديد سيكون جيدًا أو عادلًا. هو فقط يعكس موازين قوى جديدة.

حالنا اليوم أن حزب الله سيستفيد من استنزاف هذا النظام حتى الرمق الأخير. وعندما يجد أن الفرصة مؤاتية لإطاحته سيُطيحه. هذه معركة لا تُحسب بالأيام أو بالأشخاص أو قبل الساعة 3 وبعد الساعة 3. هذه معركة أعوام ومراحل ولا زلنا في بدايتها.

لذلك، سيُحاول الحزب تحقيق استقرار عبر صيغة لإدارة الخراب حتى لا تفلت الأمور وعندما تحين الفرصة سينقضُّ على النظام. وآلية إدارة الخراب قد تشهد في مراحلها إدارة كانتونية من هنا أو معركة من هناك. وتمسُّك الحزب بهذه الآلية هو بسبب غياب أي رؤية سياسية واقتصادية له تُمكِّنه من التحكم والإدارة منفردًا. لذلك، يُراهن على التغيير البطيء ويستنفر في المحطات الكبيرة، كارتفاع سعر الصرف الهائل عندما يتلمَّس حالات غضب واسعة داخل بيئته كي لا يفقد السيطرة.

المهم في كل ذلك هو رسم توضيحي للمشهد الحاصل. هناك قرار إستراتيجي في معسكري السلطة. في أحدهما قرار يدعو للحفاظ على الطائف وتطبيق باقي البنود ويستند إلى المبادرة الفرنسية، وفي المعسكر الآخر قرار لتغيير النظام بعد استنزاف الحالي وينتظر التسوية الكبرى في المنطقة. والصدام هو بين الخيارين.

المعركة الحكومية تفصيل، والأزمة طويلة جدًّا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد