مبالغ ضخمة ترصدها دول ريعية ملكية لا تعرف الانتخابات في قاموسها؛ تخصص هذه المبالغ لمكافأة نصوص أدبية بين الروايات والقصائد والمسرحيات وغيرها، هذه العروض المادية المغرية أنتجت تدريجيًا ما يسمى «أدب الجوائز» الذي يكرس صاحبه حياته للظفر بالمقابل المادي عن كتاباته، إذًا: الهدف هو استلام شيك برقم مذهل، المطلوب هو إنتاج نص بمواصفات محددة.
كيف يكون ذلك؟ وضع دراسة إستراتيجية لتحديد كيفية الوصول الآمن للجائزة، وذلك عن طريق معرفة الجهة الممولة لها وسياساتها وموقعها في التحالفات الإقليمية، وهذا ما يجعل منتج النص يلتزم التزامًا كبيرًا بعدم التصريح ضد سياسات ذلك النظام الممول، وهو ما يتطلب إما البقاء في الحياد السلبي تجاه القضايا الإنسانية، أو الإدلاء بتصريحات متطابقة تمامًا مع مواقف ذلك النظام الممول في كل القضايا ذات الشأن العام، إن كاتبًا يتخذ موقفًا معاديًا لسياسات الدولة المشرفة على الجائزة لا يمكنه ببساطة أن يستلم الشيك، لذا تجد كُتَّاب الجوائز جبناء عن دعم القضايا الإنسانية وأحسنهم حالًا يلتزم الصمت المطبق تجاه الأحداث الكبرى التي تتطلب موقفًا حاسمًا وحازمًا خاصة من المثقف الذي نفتح قوسين كبيرين جدًا للحديث عن وظيفته، وهل هو ناصر للحرية أم شاعر بلاط ينتظر العطايا السلطانية؟
إن التاريخ حفظ لعبد الله بن الزبير ثورته ضد بني أمية أكثر من مكانته الأدبية كشاعر قرشي فصيح ومفوه، بل أكثر من مكانته الدينية كصحابي عاش مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهكذا نجد مئات الأمثلة في التاريخ الإسلامي لشخصيات فضلت التمثل بالقيمة الحقيقية للمثقف المناضل في وجه الديكتاتورية ومناهضة الظلم والانتصار للطبقات الشعبية المسحوقة تاركين لأجل ذلك كل المناصب التي كانت تعرَض عليهم وكل المكانة الاجتماعية التي يحظون بها، كان الفقيه والفيلسوف الأندلسي ابن حزم قد ذاق مرارة السجن لمعارضته حكم أمراء الطوائف الذين رأى أنهم ارتكبوا خيانة عظمى لوطنه الأندلس وعاصمته قرطبة.
ويحفظ لنا التاريخ الأندلسي سِيَرًا عطرة لعدة فقهاء وقضاة وأدباء لقوا حتفهم وأسلموا خياتهم رخيصة للدفاع عن الوطن ومحاربة الظلمة والخونة، وكانوا في أرقى المناصب السياسية والدينية وخزينة الدولة مفتوحة بين أيديهم وتحت تصرفهم، ولكنهم راقبوا ضميرهم – حتى لا أستعمل المصطلح الديني الذي ينفر عنه مثقفو زماننا – وآمنوا بأن قيمتهم الأدبية تكمن في تحرير الذات والمشاركة في تحرير المجتمع من الرقابة السلطوية التي يمارسها الحاكم المستبد.
وإذا عدنا إلى محددات الفوز بالجائزة فسوف نجد أنه في الدرجة الثانية يجب على منتج النص أن يراعي شبكة العلاقات الأدبية المرتبطة بلجنة التحكيم، فبديهي أن يقدم الكاتب عهود المحبة ومواثيق الإجلال لكل أعضاء لجنة التحكيم ومن يرتبط بهم حتى لا يقع في دائرة سخطهم ويخسر رضاهم، وإن لجان التحكيم منتقاة بعناية على مرأى ومسمع السيد الممول للجائزة، وهنا يجد الكاتب / منتج النص نفسه محصورًا بين رقابتين: رقابة الحاكم ورقابة لجنة التحكيم، لنجد أنفسنا نحن أمام سؤال: أين الأدب من كل هذا؟
سيطول الكلام لو سردتُّ مواقف المفكرين المؤسسين للتغيير السياسي في أوروبا والذين أصبحوا نجومًا في سماء الثقافة الأوروبية ورموزًا حقيقية للحرية والتحرر، لقد بات جاك لويس دافيد يلقب برسام الثورة الفرنسية عن جدارة لأنه أيد الحراك الشعبي وسخر عمله الفني لتكريس ما ينادي به الشعب تحت شعار «حرية عدالة مساواة»، فضلًا عن عشرات الكتاب، ليس آخرهم أديب الثورة الفرنسية فيكتور هيغو، هل يدور في بال مثقف عربي من أدباء الجوائز أن يفكر بثورة ضد النظام الذي منحه عشرات آلاف الدولارات مقابل إنتاجه الكتابي أو الفني؟
إن مثقفًا عربيًا معاصرًا من هذا النوع لا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يسخر من جرير والفرزدق وشعراء البلاط الأموي والعباسي الذين كانوا يتنافسون في كتابة أشهى القصائد التي تُرضي أمير المؤمنين وزوجاته وجواريَه، ولقد كان أبو الطيب المتنبي واضحًا جدًا في هذا الموضوع: أمدحك يا سيدي الأمير لتعطيني صندوقًا من المال أو منصبًا سياسيًا مرموقًا، فإن لم تفعل سأهجوك!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست