لقد مر من قبل أن الوضعيين المنطقيين يرفضون ما بعد الطبيعة رفضًا باتًّا تامًّا، وهم لايقتصرون فيما بعد الطبيعة على ما هو قسم من أقسام الفلسفة. بل كل ما لايقع تحت الحس فعلًا ولاإمكانًا، فهو من هذا المجال عندهم.

فما موقفهم من الخير والقيم ومن الجمال؟ أهم رافضون لكل قيمة ومشيحون بوجوههم عن كل ما يطرب برؤيته أو سماعه أو لمسه إنسان عادي مما يداعب حس الجمال فيه ويلاعب شعوره بالحسن؟ لقد ظُن بهم كذلك. ولكن هل هذا حق؟ لنر!

المبحث الأول: وظيفتان للغة

إن بعض أنصار الوضعية المنطقية يجعل للعبارات نمطين: نمط تصويري علمي[1] وآخر انفعالي تعبيري[2].

1. فالأول لتصوير ما في الخارج، و لاشائبة لشعور الإنسان بهذا النمط. فإذا قلت:«الهيمالايا سلسلة جبال في قارة آسيا»، لم أعبر عن شعوري، بل صورت الحقيقة في اللغة المتفاهمة ويستطيع مخاطبي أن يصحبني ليستوثق من هذه القضية صدقًا وكذبًا بأن يذهب إلى المكان الذي تقع فيه السلسلة.

2. والثاني تعبير عن الشعور الذاتي، فإذا قلت:«أتألم» أو «بي صداع» أو «بي جوع»، عبَّرت عما في داخلي، وليس عند مخاطبي من وسيلة للتحقق من صدقي أو كذبي إلا قولي أنا.

فهذان النمطان يمثلان وظيفتين للغة التي تقوم بهما. فالكلمات تصف أشياء، وتعبر عن شعور. فالكلمات الوصفية يمكن تغيير مدلولها بسهولة بأن تقول للقارئ إني أستخدم كلمة كذا بمعنى كذا، وهم يقبلون هذا بغير غضاضة ولانفور، ولكن هيهات أن يقبلوا أن تغير معنى الكلمة التي التصق بها شعور معين، فكلمة الإباحية قد التصق بها شعور سلبي، وكلمة الحرية التصق بها شعور إيجابي، ومن أصعب الصعاب أن تحث الناس على أن يفرغوا كلا منهما من معنى ويصبوا فيها معنى صاحبتها. والسبب أن الناس لهم من الحساسية إزاء الكلمات التي تعبر عن شعورهم الذاتي، ما ليس في الكلمات التي تصف ما في العالم الخارجي.

المبحث الثاني: موقفان من الخير والجمال

إذا تقرر النمطان للغة، فلنقرر أن قد وجد في تاريخ الفلسفة إلى يومنا هذا وجهتا نظر من الخير والجمال، تعكسان ما أسلفنا من النمطين للغة.

1. الوجهة التصويرية: تتجه إلى أن الخير والجمال موضوعيان، ولهما وجود مستقل عن شعور الإنسان، حالٌّ بما يوصف بهما. فإذا قلنا:«هذه الوردة جميلة»، فليس الجميل تعبيرًا عن شعورنا نحن، ولكنه صفة تتصف بها الوردة. والفيلسوف الأخلاقي لايخلق شيئًا ولا يغير، بل يكشف الغطاء ويميط اللثام. فهو كاشف لا مثبت.

2. ولكن في الجانب المعاكس وجهة تعبيرية ترى أن الخير والجمال ليسا إلا شعورًا ذاتيًّا للإنسان. فليس الجمال إلا في عين الرائي كما يُقال. وأما ما نراه فهو بقعة من اللون، لها مقياس معين، وتتركب تركيبًا كيمياويًّا معينًا. فهذه العناصر لها وجود مستقل عن الإنسان. ولكن هيهات أن يكون الجمال أو الخير ذوي تحقق مستقل عنا. فالأشياء ليست في ذواتها قيِّمة، ولاجميلة. بل هي محايدة قيمةً وجمالًا.

المبحث الثالث: نوعان من الاختلاف وموقف الوضعية المنطقية:

لقد ازدلفنا مما يعيننا على فهم موقف الوضعية المنطقية من القيمة والجمال. وإنما بقي أن نقرر نوعين من الاختلاف:

1. اختلاف في الهوى والميل: مثل الاختلاف في إيثار طعم على طعم، أو تفضيل لون على لون

2. واختلاف في الرأي والنظر مثل اختلاف في طول جبل.

فإن أردنا بالجملة القيمية والجمالية تعبيرًا عن الشعور الذاتي، فهي مرفوضة عند الوضعية المنطقية، ولكن إن أردنا بها رأينا حول ميول الناس وأهوائهم، فهي مقبولة، وهي يمكن التحقق منها بالنزول إلى أرض الواقع وسؤال الناس عن رغباتهم وشهواتهم. وهذا ما يدرسه علم النفس الذي هو من العلوم الطبيعية. فمن هذه الناحية كان علم النفس علمًا معتدا به في الميزان الوضعي المنطقي.

فما يسمى خيرًا، لايكون خيرًا إلا من لحاظ أنه وسيلة لغاية أخرى، اتفق الناس على كونها مطلوبة. فإذا اتفق الناس على أنه ينبغي أن يكون للنساء حق الاقتراع، كان كل ما أدى إليه خيرًا. فليس الخير شيئًا ثابتًا لايتغير ولا يتضعضع. بل هو يدور مع اصطلاحنا واتفاقنا.

فالعبارة التي فيها قيمة أخلاقية أو جمالية فلاتدل إلا على انفعال المتكلم حين التكلم انفعال بغض أو كراهة، فهو يشير بها إلى داخله، لا إلى شيء خارج العالم.

لقد ساغ لنا بعد هذه المقدمة والتحليل أن نقرر ما تقول الوضعية المنطقية في شأن الخير والجمال. فالفيلسوف الوضعي المنطقي لايلغي القيم، ولايقول:«لاتحسنوا إلى الفقراء ولاتبروا والديكم، ولاتصدقوا»، بل يضع القيم موضعها من الوجود. فإنها تقديرات ذاتية، ليس لها وجود في عالم الطبيعة. فلنعتز بها، ولنشبث بها، ولكن هيهات هيهات أن يكون لها وجود مستقل. فالحكم الأخلاقي أو الجمالي لا إثبات فيه ولا نفي. فالعبارة الأخلاقية والجمالية لاتعد في المنطق قضية، فالقضية المنطقية ما يمكن أن يوصف بصدق أو كذب، إلا إذا قلنا مثلًا: «فلان يعد الصدق خيرًا» أو «الأغلبية الساحقة ترى الزنا رذيلة والعفاف فضيلة»، فإنها قضية منطقية، يمكن أن نتحقق من صدقها أو كذبها بعد مراجعة فلان أو الأغلبية الساحقة من الناس.

لعلك تسأل الآن وتقول للفيلسوف الوضعي المنطقي:

فكيف يمكن أن نوحد القواعد الأخلاقية بين الشعوب وكيف يمكن أن نقنن أن الحروب لابد أن توقف فإنها شر؟

يجيبك الفيلسوف الوضعي المنطقي بأن الأخلاق في حقيقة أمرها غير موضوعية سواءً أنجحنا في توحيد القواعد الأخلاقية أم فشلنا. نعم، لاشك أن اتفاق الناس في بعض القواعد الأخلاقية له فوائد عملية، والسبيل إلى ذلك الوحدة في الحاجات الرئيسة، فإن الحاجة هي التي تجعل الناس يتفقون على مبدأ معين للتعامل فيما بينهم. ولا سبيل غيرها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد