ثيرٌ من الناس لا يدرك الفارق بين المنهج الأزهري، وبين غيره من تعاليم، أو رؤى، أو أطروحات وأدبيات تبناها الأزهر يومًا ما.

بمعنى أنه ينبغي التفرقة بين المنهج الذي هو لب المذهب وقوامه، وبين غيره من متغيرات، أي بين الثابت والمتغير، والقطعي والظنّي.

واتُّهم الأزهر بالجمود، وغلق باب التجديد والاجتهاد، والوقوف عند حالة الحواشي، وما أشبه.

ولم يفرق الناظر بين حالة وقتية وضرورة زمنية اقتضتها مرحلة ما، وبين استمرارية الجمودية الفقهية والمذهبية! فبعد عصر الإمام السيوطي تقريبا (ت: 911) انتقلت أنظمة التصانيف إلى الشروح المطولة، والحواشي، واختصار الأصل، وشرح المختصر، وهلم جرًّا.

وقد ظنّ البعض –حتى من بعض الأزهريين- أنّ هذا عملٌ مقدس، ولم يضعه في إطاره الضروراتي، والمقاصدي، وإطاره الزماني والمكاني.

اضطر الأزهريون إلى اللجوء إلى حالة حفظ التراث من الضياع، وحملات التبشير والاستشراق والتغريب، بتلك المتون والحواشي، وشروحها تارة واختصارها أخرى.

ومن عند الشيخ أحمد إبراهيم، هذا الإمام الفقيه الكبير، والعالم المتفنن النحرير، بدأ التجديد في أسلوب الفقه الإسلامي في مصر، عرضًا ولغةً وأسلوبًا ومقارنة بين المذاهب الإسلامية، ومحاكمة للقوانين الوضعية (1).

بدأ التجديد بناء على ما تركه الأقدمون، مع الأدب التام معهم، والإفادة الكاملة منهم، وهذا أمر عسير لا يمكن أن يقوم به سوى النوادر الأفذاذ، وقد فعلها علماء الأزهر، فعاشوا حالة عصورهم، وأبدعوا وتفننوا فيما يستجد من مشكلات، وما يعتري الحياة من معضلات.

فجاء الشيخ محمد عبده، وطنطاوي جوهري، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، وهذه المدرسة الأصولية الحداثية التنويرية الفذة، فأحدثت تغييرًا جذريًا في الانطباع السائد عن حالة الجمود والركود، التي ظنّ البعض –من الأزهريين- أنها من المنهج وثوابته، ولم يدركوا أنّ لكلّ عصر أولوياته ومقاصده ووسائله وغاياته، فصُنّفت كتب، وأقيمت محاضرات، وأنشئت دروس علم، ورحلوا في البلدان فأحدثوا حالة من المعارفية في العالم الإسلام، بإثراء الحياة الثقافية والفقهية.

 

وعلة ذلك أن الشارع لو نص على القواعد التفصيلية لجميع الأحكام نصوصًا خاصة، ولم يجعل لأولي الأمر من الأمة الإسلامية مجالا للتفكير والبحث والاستنباط، لم تظهر مواهب العقول، التي هي من فضل الله ونعمته على عباده، ولحلّ الجمود محلّ النشاط الفكري، في التشريع لأمور الدنيا التي هي في تغير على الدوام.

 

لهذا جاءت نصوص خاصة فيما لا يستقل بمعرفته الفكر الإنساني أو تتسع فيه مسافة الخلف، وهو من المسائل الاجتماعية الأساسية (2).

فالإمام الشافعي رحمه الله غيّر بعض فتاواه في مصر عما كانت عليه في بغداد، والمذاهب الفقهية مروي فيها روايتان في مسألة واحدة في بعض الأحايين!
ماذا يفيد ذلك؟

يفيد ذلك ديناميكية الفتوى، وفهم النص، مع ثبوت النص في نفس الأمر. لكن الزاوية التي يتعامل بها الناظر تختلف؛ الوقت- السياق- المكان- الزمان- البيئة.

هذه كلها مؤثرات في التعاطي مع النصّ، فقهيًا وثقافيًا.

لذا فرّق العلماء بين مذهب الشافعي وقول الشافعي؛ ففارق كبير بين الأمرين، فلو أن شخصًا أفتى بما في الأم لا يعد من السالكين لمذهب الشافعي! لكن ينبغي أن ينظر إلى مجموع المذهب، وجهود السابقين واللاحقين فيه، بمرور الأيام وتعاقب السنين.

والشافعي رحمه الله عندما غير بعض نظراته في القاهرة كان يسير على نفس الأصول والقواعد الكلية التي استعملها في بغداد في النظر إلى النصّ أيضًا.

لكن الكليات والقواعد والضوابط حتى ولو توحدت لا تقتضي الخروج بفروع ثابتة موحدة باختلاف البيئات والأزمان!

فهذه الكليات وتلك القواعد هي المنهج المعتبر، وأما الفروع المستنبطة عن طريقها فهي متغيرة، وخاضعة لعدة عوامل، عقلية وبيئية وزمانية. فكلّ إمام يسعى لخدمة واقعه، وفك اشتباكات وتعقيدات الأزمات التي تلم بالجماهير والخلائق، والضروريات ثابتة وكذلك الحاجيات والتحسينات لكن فروعها وأمثلتها تتغير بتغير المشكلة.

ومن هنا فإنّ المنهج الأزهري ثابت لا يتغير، والحركة التجديدية التي حصلت كان لابد منها، وهي تحصل الآن عن طريق الاجتهادات القوية التي يقوم بها مشايخ الأزهريين.

 

الاجتهادات في الفروع الفقهية والثانويات العامة لابد منها، لكن القواعد الكلية، والضوابط العامة التي هي بمثابة الحصن الأزهري، من مكونات العقلية، وسمات الشخصية الأزهرية، والنظر للنص، والخلفيات الثقافية، والأبعاد العلمية، والتراكمات الأصولية والمعارفية والمقاصدية، كل ذلك من محددات النص، وبواعث الفتوى.

 

فالأزهر لا تعتريه حالة جمود، ولا حالة ركود، بل هي حالة كمون على الذات ربما لحفظ تراث الأمة، والاعتكاف على نقل العلوم والتراث والمعارف كما هي للأجيال القادمة بدون تغيير أو تزييف أو تحريف، فحدث ما حدث من إغلاق للاجتهاد والتجديد حتى رصد الموجود، وضمانة سلامته تمامًا، ثم الانتقال إلى مرحلة الإبداع.

وسواء اتُّفِق مع هذا الطرح أمْ لا، فإنّ الذي يعنينا أنّ المنهج الأزهري بقواعده وكلياته ثابت لا يتغير، فالمتغير هو كيفية توظيفه، وكيفيه تنزيله على النصوص، وما ينتج عن ذلك من اجتهادات فقهية ومذهبية.
وهذه لمحة مهمّة جدًا في المنهج الأزهري، وجب التنبيه عليها.

الأمر الأخير أيضًا: أنّ المنهج الأزهري إنما يُدرك باستقراء وجهود مجموع علمائه في العصور المختلفة والمتعاقبة لا بكلام واحد أو اثنين، على غرار ما تقرر في مذهب الشافعي وغيره كما سبق.

 

ومما سبق نقول: بأنّ المنهجَ الأزهري لا يؤخذ ولا يُستقى بقول أو بفعل شيخ الأزهر أو أصحاب المناصب الرسمية ممن رضيتْ عنهم الدولة –أيا كانت هذه الدولة-، بل يؤخذ من الثقافة الأزهرية، والتراث الأزهري، والتاريخ العام للأزهر، المتمثل في جموع مشايخه وعلمائه على مرّ العصور، الذين تلقتهم الأمة بالقبول، ولم يخرموا الإجماع العام للأمّة في مناهضة الظلم، والوقوف بجانب الشعوب.

والله المستعان.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

مجلة رسالة الأزهر
(1) تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي ص118
(2) انظر: السابق ص127
عرض التعليقات
تحميل المزيد