رغم أنه كان بيتًا صغيرًا، إلا أنه كان جميلاً جدًا، بأرضية خشبية رائعة، وشبابيك واسعة أُطل منها على مدينة النور التي أحب: باريس. كان يومًا من أيام رمضان الباريسية، إلا أنه كان يومًا مميزًا، فقد كانت المرة الأولى التي أستقبل فيها ضيوفًا على مائدة إفطارنا في رمضان، في بيتنا الجديد؛ وكان الضيف مهمًا: فهو أحد الشخصيات الدبلوماسية العربية في باريس، وقد كان قادمًا لزيارتنا هو وزوجته.
كان الضيف دمثًا ومثقفًا أما الزوجة فقد كانت رقيقة الطلة ولطيفة.
أنهينا إفطارنا وقام الرجال لأداء الصلاة، فإذا بالشابة والتي صادف أنها كانت سافرة بغير حجاب، تطلب مني ملابس الصلاة لكي تصلي. فرحت كثيرًا في سري وناولتها ما طلبتْ بكل سرور. في نهاية الزيارة قمنا بإيصال ضيوفنا بالسيارة إلى منزلهم في باريس، وفي رحلة العودة، كانت فرصة بيني وبين الصديقة الجديدة لحديث نسائي خاص: شكتْ لي من شعورها بالغربة، فهي حديثة الزواج وكانت أول مرة تتغرب فيها عن أهلها وإلى بلد أوروبي. حاولت أن أخفف عنها ونصحتها بأن تشغل نفسها بالقراءة والدعاء.
شعرت أن هناك شيئًا ما يؤرقها في حياتها الجديدة، ولكنها لا تريد أن تفصح عنه؛ ولم يطل شكّي طويلاً؛ فإذا بها تفاجئني بالقول: هل تعرفين أنني كنت محجبة يا نور؟ وأنني بعد قدومي لباريس بأيام، خاف زوجي من تعرضي لمضايقات بسبب الحجاب؛ فطلب مني أن أخلعه. أصابني صمتٌ ووجوم وحيرة، لم أدر ماذا يجب أن أفعل لأكون حكيمة: فحاولت أن أفهم منها حيثيات ما حدث.
أخبرتني أنها وزوجها وأثناء ركوبهما مرة في إحدى وسائل المواصلات شعرت بنظرات غريبة من السائق، فاعتقدت أن السبب هو حجابها، وفكر زوجها أنه من الأفضل لها من حيث الأمن أن تقوم بخلع الحجاب فاستجابت، قلت لها: أنت وزوجك مازلتما لا تتكلمان الفرنسية، فربما يكون حدث سوء تفاهم بينكما وبين السائق ويكون هذا سبب ما حدث.
واتخذت القرار أن أتحدث معها بقوة ووضوح: انظري إليّ، ألا ترين هذا الحجاب على رأسي، ولي فترة ليست بالقليلة في باريس وقد عشت وتنقلت في عدة دول في أوروبا، وأُشهدُ الله أنني لم أتعرض لمضايقة من مخلوق في هذه المدينة الكبيرة، رغم أننا دائمو الحركة وكثيرو التنقل، بل إنني أشعر براحة وأريحية في حركتي هنا في باريس أكثر بكثير مما كنت أشعر في بلدي؛ لأن الناس هنا في حالهم ولا أحد له علاقة بما يرتديه الآخر فهو حر في قراره. وإن كنتِ وضعتِ هذا الحجاب طاعة للخالق، فعليكِ ألا تطيعي المخلوق في معصية الخالق.
زوجك له عليكِ حق الطاعة فيما لا ظلم فيه ولا معصية لله، أما إن أمركِ بمعصية ليس له عليك حق الطاعة أبدًا. أعرف أنك الآن وحيدة وغريبة وضعيفة، ولكن الله معك، ولن يتخلى عنك ما دامت غايتك رضاه.
اثبتي يا أختي فإنك على الحق: أحبي زوجك واعتني به وقومي بحقه، ولكن حق الله أولى من حقه. هذه نصيحتي لك، وأنتِ أدرى بما يصلحك، والله يتولاكِ. سأكون هنا متى أردتِ التحدث معي. أنا أختك، فلا تخافي.
أوصلنا الصديقين الجديدين وعدنا، وقد تناهى إلى سمع زوجي شيءٌ من حديثنا وعرف ما قلته لها؛ فلامني، وقال لي: المرأة عروس جديدة، وهذه هي المرة الأولى التي تقابيلنها فيها، فكيف تجرؤين على أن تتكلمي بهذا الكلام الخطير؟ وما أدراك ألا يشعل هذا الكلام المشاكل بينها وبين زوجها فيقع اللوم عليك. شعرت بقليل من الخوف، ولكني استجمعت شجاعتي وقلت له: لو كان الموقف أي أمر من أمور الدنيا التي تحتمل الأخذ والرد كان كلامك صحيحًا، ولكنه موقف لله ومع الله، وهي شهادة حق في موقف قد لا يتكرر، وقد لا أعيش لأراها وتراني مرة أخرى، أفأخذل ديني وأشهد شهادة لغير الله في موقف كهذا؟ ألا وإني قد قلتها لله وأرجو منه نفعها وثوابها وألا يضرها الله ويتولاها.
مرت الأيام، وذهبنا لزيارة أصدقائنا في منزلهم الجديد في باريس: وكان موقفًا لا أتمنى لو أن لي به الدنيا بما فيها، فتحت لي الباب تلك الجميلة بحجابها السابغ وعانقتني بعينين دامعتين. شكرتني عيناها؛ فشكرت الله وحمدته مليون مرة أن وفقني يومها لقول الحق في موقف صعب، وشكرته أكثر لأن هداها وتولاها فمرت أمورها مع زوجها في سلام وود، وكان خيرًا لكليهما ولعائلتيهما.
وكانت تلك قصة من قصص حكايتي – مع – الحجاب ولكن هذه المرة: عودة إلى الحجاب من قلب باريس.
فلتسمع المسلمات في بلاد المسلمين: وليعلم من يريدون لهن أن يخلعن هذا الدين، ويخلعن هذا الحجاب عن رؤوسهن: أن الله مُظهِرٌ دينه ومثبت المؤمنين على الحق، ولو تكلم المغرضون، ولو كره الكافرون.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست