في الطريق إلى الموصل المدينة التي أحبها كحب بغداد أو أشد. يسود الخراب المشهد، شوارع مليئة بالحفر، دور محرقة ومهدمة، مدن بلا معالم ولا حتى أثر، مخيمات مهينة لكل معنى الإنسانية.
نسأل لماذا؟ أم هو سؤال معروف الجواب؟
ماذا فعلت الحرب؟ وماذا أخذت منا؟
نؤجل مواجهة الكثير من الأفكار الهدامة لأسباب مختلفة. أحيانا نجامل أصحابها وأحيانا نشتري راحة البال بتركها، وأحيانا أخرى لأننا نريد أن يبقى الأمر على ما هو عليه. ولكن تلك الأفكار المكرسة سيئة الأثر لا تكف عن اللحاق بنا. نتجاهلها في النقاش فتطل علينا من خلال الحرب لتقول ها أنا ذا.
يقلل «البعض» من دور الأعمال الشغالة على الذهن والفكر ويميز دور السياسة والإغاثة وغير ذلك. لا أعرف تحديدا أسباب ذلك ولكن ربما لأن نتائج هذه الأفعال ( سياسة – إغاثة مثلا) يمكن رصدها على مدى قريب غرار ما هو عليه في مجال «الفكر والذهن».
همتنا كالشباب تدفعنا بشكل أو بآخر إلى التغيير السريع، التغيير الذي يمكن أن نقف بعده على Tdex ونروي قصته، التغيير الذي يعرفه العالم فور إتمامه ونراه ونحن على قيد الحياة.
نمر في طريق بيجي الذي يشبه النفق المرعب فلم يبق سقف على عمود، لا يوجد باب لمحل أو بيت بشكل سليم، لا حائط بطول مترين دون أثر من آثار الدمار، ابتلعتنا الحرب. نمنا عن التجديد في الأفكار القديمة كما غفوت في السيارة لأستيقظ وأنا في الجانب الأيمن من الموصل، ولنستيقظ على خراب مهول.
مررنا عبر باب الطوب والمدينة القديمة والشفاء والمحافظة وبدأت أسترجع الصور التي كانت هنا قبل الحرب في عام 2013 يوم كنت طالبا في جامعة الموصل. ما الذي أحدث كل ذلك؟ كيف ستعمر؟ من فعلها ومن سيعمرها؟
نستمر بالسير والحزن يركب معنا في طوفان من المصائب، ومن خلال النافذة رأيت شبابا ينظفون الشارع الذي تستلقي على جانبيه بيوت وعمارات مهدمة. تنظفون الشارع؟ ماذا سيضيف هذا؟ لا يهم أنه مكان نظيف مهما حصل وهؤلاء الشباب متمسكون بكل قيم هذه المدينة الفاضلة.
قصص كثيرة يرويها السكان هنالك مختلفة بحسب الأهواء والمزاج والموقف، ولكن النتيجة واحدة أن المدينة دمرت وأريد لها ذلك وانتهى. تم ايقاظنا صباح العاشر من الشهر السادس عام 2014 على صوت إطلاق الرصاص ودخان المدافع، لبسنا الزي الرسمي كي لا تقصفنا الطائرات وسرنا بشكل جماعي. كنا عشرة أشخاص من محافظات مختلفة عبرنا الجانب الأيمن إلى الأيسر مع العوائل التي غطت الجسر الخامس، ولم يكن لأحد منا أن يعرف إلى أين نذهب.
قادنا سيرنا مع العوائل إلى الجانب الأيسر في المجموعة مقابل الجامعة وبدأنا نفكر (إلى أين نذهب؟) و(كيف؟)
لم نكن نملك شيئًا من الطعام، فذهبت لإحضار بعض الطعام تحسبًا لبقائنا وقتًا طويلًا، ولكن كانت معظم المحلات مغلقة حينها، سرت في أحد الأفرع المغلقة بالصبات العالية، حاولت النظر إلى ما وراء هذه الصبات علني أجد محلا أبتاع منه طعامًا، ولكن لم أجد فقررت القفز إلى الجهة الأخرى والبحث هناك.
وجدت محلًا في أحد البيوت القديمة اشتريت منه بعض العصائر وقطع الكيك وعدت إلى أصدقائي لخوض الرحلة التي دامت طول اليوم سيرًا على الأقدام إلى أن وصلنا إلى أربيل بسلام.
ما دار في هذه الأثناء أمور كثيرة تحمل رسائل ومعان عن الإنسان والحياة والآخر علني في مقام آخر أتمكن من الكتابة حولها. أمر اليوم على الموصل بعد غياب أربعة أعوام، أمر عليها بكل شوق وتلاقيني بكل حزن. أدخل الجامعة ولكن ليس كما دخلتها أول مرة، أحمل لها كل وفاء وتشكو لي كل الأسى.
أهل الموصل طيبون بما يكفي لإعادة إعمار هذه المدينة، الأستاذ في الجامعة الذي عقد علي المعاملة تدقيقًا مفرطا والتزاما بالقوانين، المرحبون الذين تمسكوا بنا بشدة واستقبلونا بلهفة، المهنيون والشباب المتفائل ولوحات إعادة الأمل كلها تؤشر على أن الأمر يمكن أن يكون بخير وأن الإنسان ما زال هنالك يسعى لحياة أفضل.
اللهم إني أحب هذه المدينة اللهم فاشهد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست