في مساء يوم الأحد الموافق 19 أبريل 2015 – وبعد إصابات غامضة لم تعرف أسبابها الحقيقية بعد – توفي الشاب الأمريكي الأسود (فريدي غراي) متأثرًا بإصاباته، وبعد ساعات من تشييع جنازته يوم الإثنين الموافق 27 أبريل 2015 فوجئ العالم أجمع بمصادمات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين (الذين شاركوا في جنازة الشاب) تطورت إلى اشتباكات وأعمال عنف، حيث ارتفعت خلالها ألسنة اللهب في أنحاء مدينة بالتيمور – الواقعة في ولاية ميريلاند الأمريكية– معلنة انفجار غضب مكتوم احتجاجًا على سياسات الإقصاء والتهميش التي طالت 63% من سكان المدينة المشتعلة.

في كتابه African American Culture and Happiness يتساءل شاون كوبلاند إن كانت السعادة قد لامست يومًا قلوب من اخترعوا ألحان البلوز! فتلك الألحان الموسيقية التي اشتهرت بها مدينة بالتيمور تستدعي المزاج الحزين للكثير من الأغاني المنطوية على قدر هائل من العواطف الجياشة، واكتسبت ألحان البلوز رمزية على ما بات يعرف اليوم بـ”الثقافة السوداء” التي تصف ملامح التجربة الوجودية القاسية للمهاجرين الأفارقة الأمريكيين، فآلام التجربة وحدت أهدافهم وقوت عزائمهم وفرضت عليهم الصراع ضد أشكال التمييز ضدهم، هذا الصراع خلق ثقافة جوهرها الكفاح وينضوي تحتها مجموعة من التعابير الثقافية يقع في قلبها جوهر السواد.

يؤكد ليرون بينيت في كتابه The Shaping of Black America أن كُتاب الأعمدة البيض الأوائل في أمريكا لم يكن لديهم مفهوم عن أنفسهم كبيض، والوثائق القانونية كانت تعرف البيض بأنهم إنجليز ومسيحيون، وارتباط مصطلح “أبيض” بالسمو والعظمة والغطرسة الثقافية لم يأتِ إلا في وقت لاحق، ولم يكن التفريق الأساسي في حقبة العبودية بين البيض والسود وإنما بين السادة والخدم، وأحد الدلائل على ذلك – كما يقول بينيت– هو الظروف المشتركة بين الزنوج والخدم البيض المتعاقدين للعمل لفترة معينة، حيث كانت المهام من طبيعة واحدة ولا يبدو في الحقول – على سبيل المثال– أنه كان هناك أي تمييز لمصلحة الخدم البيض.

ولكن في بداية القرن التاسع عشر سعى البيض إلى تكوين جمهورية متجانسة ثقافيًّا في أمريكا الشمالية، فوجد السود أنفسهم في وحشة أمام تلك الطموحات لأن أهوال العبودية قد أنهكتهم اقتصاديًّا وأضعفتهم عقليًّا، في تلك الفترة تعرضت صورة السواد لشيء من التغيير؛ فشاع عن “الزنجي” أنه مخلوق منحط ودون مستوى البشر ويفتقر إلى ضبط النفس ويميل إلى الخيانة والبطالة! ومع ارتفاع الأصوات المطالبة بإلغاء نظام الاسترقاق في نهاية القرن التاسع عشر أصبحت العنصرية وسيلة أيدولوجية مريحة للدفاع عن استعباد البشر، وهذا يفسر الانتشار الواسع لنظريات علم الأجناس (فرانسيس جالتون، إدوارد لونج، بينجامين ريش… إلخ) بعد منع بريطانيا لتجارة العبيد سنة 1807 حيث كانت المقاربة العلمية للعنصرية مناورة دفاعية قصد بها تذكير العالم بالفجوات التي لا يمكن سدها بين السود والبيض، فإن كان من الممكن علميًّا إثبات أن السود يحتلون مكانة أدنى بكثير من تلك التي يحتلها البيض في التراتب الطبقي، فإن هذا سيخفف ضغط المطالبة بمعاملتهم كأنداد ويمهد الطريق للهيمنة والاستغلال والقهر الصريح.

الثقافة السوداء وميراث الـ”سامبو” الثقيل

يقال إن أصل “سامبو” هي كلمة إسبانية Zambo تعني الشخص مقوس الساقين ونوعًا من أنواع القردة، ثم تغير مدلول الكلمة في القرن التاسع عشر حيث أصبحت تطلق على السود، في كتابه The Rise and Demise of an American Jester يذكر جوزيف بوسكين أن سبب وصف السود بالسامبوهات هو لأنهم مهرجون!

يضحكون ويغنون ويرقصون ويلعبون، واستشهد بكلام الجيولوجي الإنجليزي تشارلز ليل في تفسير غرام الزنوج بالموسيقى والرقص حيث قال: “ما إن يذهب الألم والجوع حتى تكون حالة السود الطبيعية هي الاستمتاع”! كان الـ”سامبو” مراوغة درامية؛ فعندما اقترب موعد تحرير العبيد كان سادتهم يلجؤون إلى صالات الموسيقى في محاولة لتحاشي ما هو حتمي، وكان أصحاب المزارع يتبرمون: لم يتم إلغاء الرق بينما العبيد بكل هذا القدر من السعادة؟

وبالإضافة إلى الغناء والرقص والتهريج كان السود في طور العبودية يقومون بالتسرية عن أسيادهم بطرق مختلفة، فكانوا يتنافسون في سباقات الجري ويتبارون في المصارعة والملاكمة وفي مسابقات “احتساء الويسكي” وغيرها من المسابقات.
تنتابنا الحيرة في عصرنا حينما ندرك أن نمط الـ”سامبو” قريب من الحقيقة بصورة مثيرة للقلق، فالأمريكيون الأفارقة لم يتطهروا تطهرًا تامًا من ميراث الـ”سامبو”، لأن التعبير عن الثقافة الأفريقية في البيئة الأمريكية تم – في الغالب– عن طريق قناة محددة هي “الترفيه الشعبي” وخاصة الرقص والموسيقى والرياضة! لقد بقي ميراث السامبو بعد زوال الرق والعبودية لأن السود أصبحوا يفضلون ممارسة نفس الأنشطة التي رأى البيض أنهم يستطيعون أداءها بخفة ومهارة.

بالإضافة إلى سبب آخر وهو خضوع السود في البداية لأسر الصورة النمطية التي حاصرهم بها البيض لأغراض نفعية، حيث كان البيض يجدون صعوبة في النظر إلى السود خارج إطار الملاكمة والغناء والرقص، بل إن الكنائس السوداء – التي انتشرت في ولايات أمريكا بعد تحرير العبيد– كانت دليلًا إضافيًّا لدى البيض على “قدرية” السامبو لدى السود، نظرًا لشيوع القراءة الخاطئة للكتاب المقدس والاحتفالات ذات النزعة الطفولية داخل تلك الكنائس.

ودخلت الثقافة السوداء طورًا جديدًا عندما انتشرت الفرق الترفيهية الزنجية في طول الولايات المتحدة وعرضها، وكان السود يؤدون أدوارًا مسرحية تثير قدرًا كبيرًا من المرح لدى البيض، فهذا بيلي كيرساندز – من أشهر فناني العروض الزنجية في نهاية القرن التاسع عشر– كانت نجوميته تقوم على قدرته على الأداء وفمه مليئ بكرات البلياردو والكؤوس، وجعلته الأشكال الكاريكاتورية التي يرسمها بوجهه تشخيصًا كاملًا لـ”السامبو”! ويقل أجر الفنان الأسود – بغض النظر عن شهرته– كلما تحرر من نمطية “السامبو” التي تفرضها ذائقة الجمهور الأبيض؛ وهذا ما حدث مع والاس كنج (مغني شعبي شهير من طبقة التينور) وهوراس ويستون (عازف ماهر لآلة البانجو) بالإضافة إلى المغني الشهير جيمس بلاند (ذاعت شهرته في أوروبا في ثمانينيات القرن التاسع عشر)، وبقدر ما أضرت العروض الزنجية السود فإنها ساعدتهم في واقع الأمر وذلك بخلق اهتمام واسع الانتشار بالسود وقضاياهم.

هل تحولت الثقافة السوداء إلى سلعة تجارية مربحة؟

يعتبر الملياردير الأمريكي الأسود راسل سيمونز نموذجًا صارخًا على تسليع الثقافة السوداء، فأصول إمبراطورية سيمونز تعود إلى ثقافة الهيب الهوب الخاصة بأحياء السود الفقيرة في نيويورك، حيث كانت موسيقى “الراب” التي أثرى منها سيمونز هي قصيدة الشوارع التي تستعمل لغة niggas (الزنوج) وbitches (الساقطات) وhos (العاهرات)، أخذ سيمونز الثقافة السوداء التي تفوح منها رائحة الجريمة والفقر وجعل لها نكهة خاصة، فقام بتحويل الموسيقى السوداء إلى أجناس فنية تمتدح السادية والفحولة، وتحتفي بمعارك العصابات وتجارة المخدرات وقمع الشرطة والعنف الجنسي، وكانت شعارات “الراب” يائسة وقاسية بل كانت الموسيقى ذاتها – التي باتت اختزالًا لانهيار حياة السود العنيف من الداخل – مصدرًا أساسيًّا لثروة سيمونز الهائلة! يذكر كريستوفر فون مؤلف كتاب Black Enterprise أن راسل سيمونز قال له ذات مرة: “إني آتي لهم بثقافة اليوم السوداء، وأضعها هناك لأي إنسان يريد شراءها”.

تحدي القانون والسلطات أصبح بدوره عاملًا مساعدًا في زيادة مبيعات الموسيقى السوداء! ففي سنة 1986 كتب أوشي جاكسون (المشهور بـ Ice Cube) أغنية اسمها Boys N the Hood تنضح بسخط شديد ضد الشرطة، وساهم في تطوير “راب العصابات” بإدخاله مادة أرشيفية كالبيانات الاستخبارية وأبواق الشرطة وإطلاق النار! وعندما حققت فرقة “إن دبليو إيه” نجاحًا باهرًا بعد إصدار ألبومهم Niggaz4Life سنة 1991 قدم أعضاء الفريق شكرهم على الرعاية التي قدمها لهم “تجار المخدرات وتجار المسروقات ورجال العصابات”! بل إن الاتهام بجريمة القتل حقق لكالفن بروداس (المشهور بـ Snoop Dogge ) مبيعات تجاوزت 40 مليون دولار لألبومه Doggstyle، وهذا ما حدث مع فنان آخر اسمه توباك شكور (المعروف بـ Pac2) الذي خرج من السجن بكفالة بعد اتهامه بقتل ضابطي شرطة ليرى ألبومه All Eyes on Me وقد حقق مبيعات تجاوزت 12 مليون دولار!

ومنذ منتصف التسعينيات أصبحت صناعة الموسيقى السوداء مقسمة بين ست شركات كبرى، أكبرها هي Warner التي تشكل جزءًا من Time Warner (أكبر شركة إعلامية في العالم) وتستحوذ على 23% من صناعة الموسيقى بأرباح تتجاوز 12 مليار دولار سنويًّا، تليها PolyGram وSony اللتان تحوزان على 14% و13% على التوالي، أما الشركات المتبقية فهي: شركة BMG بحصة مقدارها 12% وشركة MCA بحصة مقدارها 10% وشركة EMI بحصة مقدارها 8%، وكانت أصول هذه الشركات ذات الأرباح الطائلة مكونة من مجموعة من الفنانين السود، فعلى سبيل المثال: تم بيع 30 مليون نسخة من ألبومات جانيت جاكسون الثلاثة حتى سنة 1996 مما أجبر شركة Virgin Records على دفع 80 مليون دولار مقابل ألبوماتها الأربعة التالية!

لقد رسخ “الراب” الصور التي تناقلها المستعمرون عن الشعوب غير الغربية، وأزيل الغبار عن تلك التسجيلات القديمة التي استخدمت في يوم من الأيام لتبرير القهر والأسر وأعيدت للخدمة ولكن على يد السود هذه المرة، وهذا لا يعني أن النجاح الفني للفنانين السود مستبعد في حال تحاشي النسق السائد، فكم من ممثل ومغنٍ أسود نجح في مقاومة هذا النسق، وفي أواخر التسعينيات رفض مجموعة من الفنانين السود المتألقين هذه الصورة الثنائية من أجل أداء أدوار أكثر تعقيدًا، هناك دائمًا نوع من التوازن في عالم الفن والغناء الأسود؛ فمقابل كل من إيدي ميرفي أو ووبي جولدبرغ أو إيكون هناك كل من دينزل واشنطن أو ويتني هيوستن أو لوثر فاندروس، هذا النوع من التناقض والتضاد في عالم الفنانين السود مفيد جدًا لتحرير الثقافة السوداء من صورها النمطية.

الثقافة السوداء.. واقع مؤلم ومستقبل غامض

“تخيل شجرة شربين بها القليل من الفروع الصغيرة ولكنها قوية بالقرب من قمتها، بينما غالبية الفروع دون ذلك في اتجاه القاعدة حيث الأغصان أطول، كذلك الأقليات العرقية تقف حول جذع الشجرة تترقب فرصة الارتقاء” أورد المفكر والباحث المتخصص في الصراعات الإثنية والطبقية لويس كوشنك هذا المثل لإيضاح أن العنصرية ضد السود – كفكرة وممارسة– قد أخرت تقدم الطبقة العاملة على حد سواء في الولايات المتحدة وبريطانيا في سنوات ما بعد الحرب، فالفكرة طبقًا لما يقوله كوشنك هي أن البيض يرضون بأن تكون أماكنهم في المستويات الدنيا ما داموا يبعدون السود عن فروع الشجرة تمامًا، يقول مايكل ويرفيوركا في كتابه The Arena of Racism “بيض الطبقة العاملة يخشون أشد الخشية من رؤية المسافة بينهم وبين السود تختفي”!

لقد تشكل جزءًا كبيرًا من صورة البيض لأنفسهم كرد فعل لما يعتقدون أن السود ليسوا عليه، فاعتقادهم أنهم الأسمى فكريًّا وثقافيًّا جعلهم يتصورون أن السود هم أهل الجهل والبربرية، وللحفاظ على هذه التصورات كان من الضروري خلق نسق اجتماعي لا يكون فيه للسود خيار سوى العمل حسب توقعات البيض، واليوم – وبعد أكثر من خمسين سنة منذ إقرار الحقوق المدنية للسود– لا يزال معدل البطالة بين السود ضعف ما هو عليه بين نظرائهم البيض، والسود من أصحاب الخبرات والشهادات لا يتقاضون نفس الأجور التي يحصل عليها البيض، والسبب الرئيسي للوفاة بين الذكور السود الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35 سنة هو القتل! وعندما نتأمل ما كتب عن معضلة العنصرية خلال فترة التسعينيات وحتى الآن (مثل: كتاب مايكل دوسون Behind the Mule وكتاب جوزيف ستيوارت Can We All Get Along وكتاب هيرمان فيرا White Racism) نجد أنها تكرر نفس الحكاية التي تتمثل في التناقضات المستمرة في التوظيف والتمثيل السياسي والإسكان.

يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 – 1980): “إن الأوروبي قادر وحسب على أن يصبح رجلًا من خلال خلق الوحوش والعبيد”! ما من أمة عذبتها العنصرية مثل الولايات المتحدة، ومهما شطح البيض في خيالاتهم وبالغوا في إظهار المكتسبات الحقوقية والقانونية للسود في العقود الأخيرة (وأبرزها انتخاب رئيس أمريكي لأول مرة من أصل أفريقي) فإن الواقع ليس جميلًا حين نلتمس آراء السود، يقول إيليس كاشمور في كتابه (صناعة الثقافة السوداء) ما نصه: “في الوقت الذي نستمتع فيه بالثقافة السوداء بكل أشكالها القابلة للبيع، ينبغي أن نذكر أنفسنا بالانتهازية الكارهة للبشر التي جاءت بها إلى آذاننا وأعيننا، ونحن نجد في الثقافة السوداء تاريخًا من الغش الأمريكي والعنف الأمريكي والقهر الأمريكي والعنصرية الأمريكية، وهي كلها قد جمعت بطريقة تثير التفكير دون أن تحثنا على العمل”.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد