في نهايات القرن التاسع عشر؛ أطلق الكاتب الأمريكي الساخر «أوليفر هنري» هذا المصطلح ليَسخر من دولة هندوراس، في إحدى مجموعاته القصصية التي تحمل عنوان: «الملفوف والملوك» والتي يتناول فيها قصصًا من الحياة الاجتماعية تحت الصفر، التي طبعت واقع دول أمريكا الوسطى، وتعد هذه السلسلة القصصية من أجمل ما كتب هنري مازجًا فيها قساوة المعيشة مع أساليب لغوية هزلية تلوح ببعض الحقائق التي عاشها الكاتب بنفسه؛ إذ إن حياته العملية كانت بسيطة جدًّا، لدرجة أنه افتقر في بعض مراحل حياته، ولجأ إلى الاستدانة، واتُّهم بالاختلاس.
أقول: كانت دول وسط أمريكا تحكمها عصابات ثرية تعتمد على الزراعة الاستعمارية (أو المستعمرات الزراعية التي تعني بيع الأراضي الزراعية للأثرياء وتشغيل الأيدي العاملة من عامة الشعب بأجور زهيدة جدًّا) دون الالتفات إلى الشعب المنهك بالفقر والأمراض، ثم أصبح المصطلح يطلق بداية من النصف الثاني من القرن العشرين في عالم السياسة على كل الدول التي تعتمد في اقتصاداتها على مصدر ريعي واحد، وغالبًا تلك التي يحتل مجال التصنيع فيها أدنى المستويات، وبين السخرية والحقيقة، أصبح هذا النعت أداة في أيدي المعارضة التي تتذمر من سياسات الأنظمة الحاكمة، حتى في الدول المتقدمة.
مؤخرًا وصفت المعارضة الفرنسية إيمانويل ماكرون بأنه يقود جمهورية موز، لا تختلف عن تلك التي توجد في عمق أفريقيا، وخلال الأزمة بين كندا والسعودية، استعمل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير هذا المصطلح قائلًا: «لسنا جمهورية موز»، لينفي عن بلاده حالة الضعف، وأنه بإمكانها اتخاذ موقف ندِّي تجاه ما وصف حينها بتدخلات كندا في الشؤون الداخلية للمملكة السعودية.
لكن لا ندري هل يمكن اشتقاق مصطلح جديد هو «نخبة الموز» على النخب التي تعتمد في تفكيرها على مورد واحد دون توسيع دائرة النظر، والبحث، والنقد، والقراءة، والتثبت من شائعات الأخبار؟ قد يكون ما نعيشه اليوم من بروز طبقة تبدو مثقفة ظاهريًّا، لكن تفتقد تمامًا إلى منهج التفكير العلمي دافعًا لذلك، هذه الطبقة لاقت ازدهارًا كبيرًا منذ انطلاق الحراك الشعبي المبارك في الجزائر، إذ ساعدتها في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي، والبث الحي، وتكرار الأخبار المغلوطة دون تثبت مع تقنية الوسم (الهاشتاغ)، ظاهرة نخبة الموز توسعت إلى مجال الصحافة والكتابة والسياسة، حتى باتت لها أسماء مركزية، وتأثير حقيقي في توجيه الموجات الشعبية، وتغيير الآراء، وتحديد الشعارات، واتخاذ المواقف.
وتوضيحًا للأثر الفعلي لهذه الطبقة في الشارع؛ أستحضر هنا عبارة «يتنحاو قاع»، التي تعني في اللهجة الجزائرية: فليرحلوا جميعًا، أطلقها شاب جزائري بسيط جدًّا إثر تدخله المفاجئ على بث مباشر على إحدى القنوات العربية التي غطت الحراك في بداياته، هذه العبارة أصبحت شعارًا يحمله ويؤمن به كل المثقفين والنخبة التي تعارض المسار الدستوري، بينما يطرح معارضوهم سؤالًا جوهريًّا مفاده: ماذا يعني رحيل كل النظام أو كل السلطة؟ وما التطبيق العملي لتسليم السلطة من النظام إلى الشعب؟ كيف يحدث ذلك؟ وما نوع المرحلة الانتقالية التي تتحدثون عنها؟ لتظل هذه الأسئلة عالقة دون جواب أكاديمي واضح.
في الوقت ذاته صرخت طالبة جامعية أمام الكاميرا قائلة: «ماناش حابسين» أي: لن نتوقف، فتصدرت هذه العبارة لافتات المسيرات بالعاصمة، والتي سيطر عليها مؤخرًا أصحاب المرحلة الانتقالية، تلك الصرخة صدرت في لحظة حماسة واندفاع لكل من شاهد الفيديو، وليس بالضرورة أن يكون المقصود بها كما هو ظاهر؛ لأن المواقف السياسية لا تتخذ بالهيجان والصراخ، وهذا ما جعل الفريق المطالب بالحل السياسي والمرحلة الانتقالية لا يقدمون أي حل عملي بديل للحل الدستوري، وحتى الآن لا يسيطر على حواراتهم ومنشوراتهم إلا شعارات غير معقولة، تتبناها نخبة بدا جليًّا أنها لا تستعمل منهجًا فكريًّا ومنطقيًّا واضحًا، فهل أثرت ممارسة النظام البوتفليقي – الذي هو أحد ممثلي جمهوريات الموز- على النخبة السياسية فأصبح لدينا نخبة موز؟!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست