مشاهد من إنسانية ضائعة
ربما هي حكايات لن تفيد، ولكنها مؤلمة فلا توغل في القراءة حتى لا يصيبك الملل أو الألم!
مشهد 1
«وأما السائل فلا تنهر».
ظهيرة يوم رمضاني شديد الحرارة، في أحد شوارع القاهرة التي لا تترك أحدًا دب بقدمه على ترابها إلا قهرته!
حشد غفير من الناس يغلب عليه النسوة البسيطات، ورجل واقف على بوابة جمعية خيرية يبدو أنه سيشرع في توزيع بعض المواد الغذائية المعلبة فيما يسمى في مصر بـ«شنطة رمضان» «وكأن الفقير لا يأكل إلا في رمضان».
يقف على بسطة مرتفعة بعض الشيء، وبيده عصا قصيرة يشير بها يمينًا وشمالًا، وهو يصرخ في المحتشدين، يرعد ويزبد ويصدر الأوامر، ويهدد من لم ينصع للأمر أنه محروم من العطاء!
الحر يقتلني، لكن المشهد كان يستحق الانتظار.. ما الذي جعل هذا الرجل يتعامل مع هؤلاء البسطاء بتلك الغلظة؟
لماذا هو مصر على إيقافهم في طابور تحت الشمس، ولم يسمح للنسوة والعجائز بالجلوس بجوار الحائط يتلمسن بعض الظل؟
لماذا يمسك عصا بيده ويشير بها إلى الناس؟
لماذا لا يعطي الناس مباشرة، فإن كان لديه كشف محددة أسماؤه فلينادِ عليه، وإلا فليوزع أرقامًا أو يوجد حلًا ما يخفف به عن خلق الله تلك الوقفة!
أجهدني الحر، وغص حلقي برؤية هذا المشهد المريع، الذي ختم بعجوز تركت الصف منصرفة وهي تقول بلهجة آتية من صعيد مصر «ملعونة لقمة العيش المغموسة بذل!»، وللمشهد بقية لا داعي لذكرها، ولكن الفكرة هي كيف استطاع هذا الموظف أن يتعامل مع البشر بهذه الطريقة؟ أظنه لم يرهم على أنهم بشر، فقط كانوا أرقامًا تملأ الكشوف أو جزءًا من وظيفته!
مشهد 2
«حتى المجرم إنسان!»
محكمة الإسكندرية الكلية في شهر يناير (كانون الثاني) وما أدراكم ما الإسكندرية في الشتاء!
شرطي يقتاد سجينة ترتعد من البرد، أو من الخوف أو من كليهما، لا ترتدي إلا ثياب الحبس الاحتياطي البيضاء، وهي مما لا يكفي في الصيف، فما بالكم بالشتاء، وتحمل في يدها كيسًا صغيرًا يظهر أن أحد أهلها أعطاه لها في تلك الدقيقة المختلسة التي يخطو فيها المتهمون في المسافة بين سيارة الترحيلات وبين باب المحكمة، حيث يخلي الحرسُ المحكمةَ إلا من المحامين.
تحاول المرأة فتح الكيس البلاستيكي بيد واحدة حيث إن اليد الأخرى مقيدة في «الكلابش» إلى يد الشرطي، الذي لا يكف عن التدخين، والحركة في رواق المحكمة جيئة وذهابًا، وكأنه نسي أن روحًا مقيدة بيساره يجرها خلفه وهو يتنقل بين المكاتب والقاعات مسلمًا على زملائه!
سقط الكيس من يدها بسبب السرعة التي يتحرك بها الشرطي، والتي لا تتناسب مع سير امرأة ترتدي لباسًا فضفاضًا، حاولتِ التقاطه فلم يسمح لها بذلك، صفعها ثم صرخ فيها موبخًا حتى لا تلتقطه، نظرت المرأة بأسى إلى الكيس، وهو على الأرض، بينما هي تركض حتى تدرك خطوات الشرطي الصاعد إلى الدور الأعلى، حيث مكاتب النيابة!
محامٍ شاب يظهر من هيئته حداثة عهده بالمحاكم وبأروقتها، تعرف ذلك من خطواته المشتتة في زحام الطرقات التي تعج بالمحامين والضباط والمتهمين، وكأنه تائه بعض الشيء أو غارق في ذاك الطوفان البشري.. يلتقط الكيس ويجرى بضع خطوات، ثم يصعد السلالم مسرعًا خلفهم، يحاول مناولة الكيس للمرأة، فيمنعه الشرطي:
«- ممنوع يا أستاذ.
= الكيس كان معاها أصلًا ووقع منها.
– ملكش دعوة بالموضوع يا أستاذ، هو أنت المحامي بتاعها؟
= لا مش المحامي بتاعها بس دي حاجة إنسانية، أنت مش حتخسر حاجة لو أخدته.
20 جنيهًا حلت المشكلة، وكانت كافية – وقتها – ليتوقف الشرطي برهة لتدخين سيجارة، ريثما تفتح المرأة الكيس الذي لم يكن يحتوي إلا على شال (وهو ما تضعه النساء على أكتافهن للتدفئة) وبعض البسكويت والعصير»!
إذًا فالأمر ليس بالخطير إلى هذه الدرجة!
سأل الشرطي قائلًا: «بس ليه اللي أنت عملته ده يا أستاذ، انت حتى متعرفهاش ولا تعرف هي جاية في إيه»!
لم يرد المحامي عليه، حيث تبسم وانصرف ليتابع عمله، ولكن السؤال الذي ظل يتردد في ذهنه:
ما الذي جعل هذا الشرطي يمتنع عن بذل بضع ثوان يمكن فيها لتلك المرأة أن تلتقط كيسها، الذي اكتشف فيما بعد أنه كان يحتوي على طعامها الوحيد الذي ستتناوله خلال يوم العرض على النيابة الذي يبدأ من الصباح الباكر وينتهي في المساء دون طعام أو شراب؟
لماذا لم يفكر أن ثمة إنسان يشعر بالبرد بينما هو يستدفئ بالجاكيت الميري الشتوي؟
ما علاقة الجرم الذي فعله الإنسان بمعاملته كإنسان؟
هو لا ينظر إلى الناس باعتبارهم بشرًا «مثله»، بل هم «متهمون» عبارة عن أرقام صادر ووارد، ولولا الجنيهات الـ20 لما توقف برهة لتشرب الماء!
مشهد3
«أعطيته معطفي ولكن..».
كم من معارض سياسي يتكسب بمعارضته كما يتكسب المؤيد بتأييده، غير أن المعارض يرفع شعارات توحي «بجدية» تعامله مع القضية التي يعارض من أجلها! فهو يتحدث عن الإسلام والأمة والأخوة في الدين.
يأتيه واحد من أبناء السبيل الذين تجوز لهم الزكاة بنص الآية، فيمنعه وتتدفق إليه الأموال والموارد والتسهيلات فيقسمها كما يقسم الغنائم لا كما تقسم الزكوات، ويكون أول سؤال يستفسر عنه قبل أن يعطي أحدًا شيئًا «هل هو معنا؟» وكأن المسلم الذي ليس من تنظيمه أو فكره ليس مسلمًا، أو أن المسلمين على درجات وهو يعطي فقط الخواص لا العوام! بغض النظر عن الاستحقاق الشرعي.
حكى لي هذا الشاب كيف أنه بات ليالٍ بلا مأوى، وترك دراسته لعدم قدرته على الوفاء بتكاليفها، وعمل في مختلف الأعمال اليدوية حتى يؤمن لقمة يأكلها، ولم يكن يملك ثمن معطف شتوي يقيه برد الشتاء!
وعندما ذهب لأحد زعماء المعارضة (التي انتمى إليها يومًا) قال له إننا لا نمنح شيئًا إلا لمن هم «معنا»!
فكونه «كان» معهم لا يكفي لمساعدته، وكونه في كربٍ لا يكفي لدعمه، وكونه إنسان لا يعد – بالطبع – وصفًا كافيًا يجعله مستحقًا لأي شيء!
تساءلت في عقلي وأنا أواسي هذا الشاب الذي تقلبت به الأيام، وأمسح دمعه إذ غدرت به سفينة ركبها إذ ظن فيها النجاة فوجدها سفينة قراصنة يتقاتل ركابها على الغنائم والقيادة، بينما السذج يظنون فيها حراسة الدين والحفاظ على السنة وتلك الشعارات التي تستخدم بلا مضمون حقيقي.
كيف لقيادات هذه التنظيمات والجماعات أن يتركوا الشباب كنز الأمة دون رعاية حقيقية، ويقحمونهم في مساجلات لا طائل منها، ويقدمون ويؤخرون ويعطون ويحرمون بناء على اختيارات بعيدة تمام البعد عن الإسلام؟
مع الأسف معطفي الذي أعطيته له كان كافيًا ليدفئه هذا الشتاء، ولكن غصة قلبه ما زلت أشعر بها كلما قرصني البرد أو الجوع، كيف يسوغ لمن تصدر لقيادة أشخاص أن يؤمن أوضاعه قبلهم، ثم ينام هادئًا قرير العين على وثير الفراش وهناك من لا يجد سقفًا يؤويه؟
هم لا يتعاملون معهم كبشر، ولكنهم مجرد أعداد وأدوات لقياس مدى التأثير والنفوذ، وأوراق مساومات سياسية لا أكثر ولا أقل.
ولو تعاملوا معهم باعتبارهم بشر لهم أرواح ومستقبل وحياة، مثلهم مثل بقية أبنائهم لاختلف الوضع بالكلية!
هذه المشاهد الثلاثة في نظري متشابهة، الموظف والشرطي وذاك القيادي المعارض.. كلهم يتعامل مع البشر باعتبارهم أرقامًا أو وظائف أو أشياء، فكان معيار الأهمية بناء على ما يقدمه هؤلاء البشر من قيمة وفائدة لهم..
هذا التعامل الذي لا يتصف بالإنسانية لا يؤثر فيه موقف الشخص من القضايا السياسية ولا درجته العلمية والوظيفية، فقد تكون ممن يعمل من أجل الوطن أو الأغراض الخيرية أو القضايا السامية، ولكنك لا تقدر قيمة الإنسانية.
لذا قبل أن تكون أي شيء حاول أن تكون إنسانًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد