توطئة
إن مدى استيعاب الإنسان لجمالية هذا الكون تحدد من هو، وترسم شخصيته ورغباته وسلوكياته وطموحاته، حيث إن إدراك الجمال والماهية التي يتلقاه الفرد بها تمكننا من فهمه وسبر غور كيانه الإنساني. بساطة، إن الجمال هو ما يُرهف الإنسان جاعلًا منه إنسانًا حقيقيًا متذوقًا لقيمة ما هو حوله من مشاهد وتفاصيل، وإلا فالإنسان مجرد كائن آخر يعيش على هذه الأرض لمجرد البقاء دون أهداف أخلاقية تصنع لحياته معنى أو قيمة، إذا ما تناولنا الأخلاق بمفهومها الكلي الذي ينطوي على كل ما يؤنسن الإنسان.
وانطلاقًا من ذلك لطالما استوقفتني فكرة كيف يرى الإرهابي العالم! هل يراه مثلنا بألوانه وشجره وسمائه وتفاصيله الجمالية الأخرى؟ أم أنه غير مكترث للالتفات إلى هذه التفاصيل التي يعتبرها هامشية فيمَ يتعلق بتحقيق أهدافه؟ بمعنى ماذا تعني الوردة الملقاة على الطريق للإرهابي؟ قطعًا، لا شيء بالمطلق، هذا إن لم يدسها دون أن يلحظها أصلًا.
من هو الإرهابي!
إن المفهوم السائد عن الإرهاب قد ارتبط بشكل كبير بالجماعات الدينية المتطرفة وأيدولوجياتها الفكرية وعملياتها على أرض الواقع من تفجيرات واغتيالات وتقييد للحريات، ولكن يجب أن يمتد مفهوم الإرهاب ليشمل كل سلوك غير طبيعي من شأنه تعميم الخوف والقلق بين الأفراد في أي مجتمع، سواءً كان ذلك السلوك نابعًا من توجه ديني، أو توجه فكري آخر، فالإرهاب بمعناه العام هو محاولة السيطرة من خلال إيقاع الرعب في نفوس الناس، وبالتالي عدم قدرتهم على أن يكونوا أنفسهم، وهذا ما يقوم به الإرهابي، فهو يقوم بكل ما يحجب الإنسان عن ذاته، محولًا إياه لكيان خائف غير قادر على تحديد ما يريد بوضوح.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الإرهابي هو كل شخص لديه ميول متطرفة، وأفكار راديكالية متحجرة لا يقبل أن يُناقش بها، بل يعتبرها مقدسات يجب على الجميع التسليم بها، والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو عدو يهدد بقاء الفكرة الإرهابية، إذًا فالإرهابي هو حالة شاذة لا تتوقف عن التضخم في المجتمعات إن لم يتم التصدي لها منذ بدايتها كفكرة.
وفي حين أن الإنسان لا يكتمل إلا بكونه كيانًا متمرسًا بالحياة، راقصًا على وقع جماليتها، ومعمرًا لها، يرفض الإرهابي أن يتحقق هذا المعنى فهو أشد خطرٍ قد يهدد بقاءه، هو القائم على العنف والخراب والتدمير كيف يسمح ببقاء جماليات الحياة؟ الإرهابي يعلم جيدًا أنه بقدر هدمه للإنسان بقدر ما يحقق لأفكاره الاستدامة على الأرض.
الفن والجمال كتهديد لوجود الإرهاب
إن سيادة أي فكرة متطرفة لا يمكن أن تتم في ظل ظروف طبيعية، لذلك تعمل المنظمات الإرهابية دائمًا على خلق الحالة الفوضوية التي تزعزع بدورها الأمن الإنساني والنفسي لدى المجتمعات التي ترمي تلك المنظمات إلى بسط سيادتها فوق أراضيها، وإن الناظر في شأن المناطق التي تحكمها منظمات إرهابية أو شبه إرهابية لا يحتاج جهدًا ليلاحظ التشابه الواضح في الوضع الاجتماعي لكل تلك المناطق، من حيث فرض الشرائع الدينية بحذافيرها، بحيث يكاد لا يستطيع المرء أن يتحرك بدون فتوى شرعية! حتى وإن لم يكن الأمر كذلك بالضبط، فإن الهيمنة الإرهابية تجعل من الإنسان خاملًا مهزومًا غير قادر على إنتاج الفن، أو تأمل الجمال.
إن الإرهاب كما أشرت مسبقًا هي فكرة قائمة على الخراب من أجل الاستمرار، والجمال هو نقيض الخراب، وبالتالي حين يعم الخراب تصبح الدولة أشبه بمقبرة جماعية، أو كسجن ضخم يحتوي آلاف المختطفين تستخدمهم المنظمات الإرهابية كدروع بشرية، وأدوات ضغط على العالم لتنفيذ مطالبهم، هذه ليست مبالغة، هذا ما يحدث فعلًا في العديد من المناطق في الشرق الأوسط، كقطاع غزة والمناطق التي لم تزل تحت حكم «داعش»، أو تعاني مما خلفه حكم «داعش».
إذًا فالإرهابي ليس فقط لا يرى الجمال، بل يحاربه بكل ما أوتي من شراسة، فهو يعلم جيدًا أن المشاهد الجمالية التي ترهف حس الإنسان هي أكبر تهديد لوجوده، بهذا المعنى نستطيع أن ندرك سبب تشابه جميع المناطق التي يحكمها الإرهابيون في كونها أشبه للمقابر من المدن، وإن من السذاجة بمكان أن نعتبر ذلك مجرد مصادفة!
الجمال والإرهاب لا يجتمعان في قلب إنسان عاقل
إن المتأمل لسلوك الإرهابيين وأسلوبهم في التفاعل والتأثير أن يصل إلى نتيجة هامة، وهي أنه لو اجتمعت كل المنظمات الإرهابية على هذه الأرض لإنتاج عمل فني جمالي لن يقدروا! وبالطبع هم ليسوا مكترثين لذلك، ولكن دعنا نضع ذلك الاحتمال، أن تقوم منظمة إرهابية بإعداد عمل فني للترويج لأفكارها ورؤاها، لن تقدر على ذلك، فقط سينتجون عملًا رديئًا مشابهًا لفكرتهم، فالجمال بطبيعته لا يتآلف مع الخراب، والدم، والترهيب، وغيرها من اللاأخلاقيات التي تبشر بأفكار خيالية ميتافيزيقية خطرة تفصل الإنسان عن جسده.
إن الجمال والإرهاب لا يجتمعان في قلب إنسان عاقل، فهل سبق لك أن رأيت إرهابيًا يعزف على كمان مثلًا! أو إرهابيًا يرسم لوحة، أو يتحدث عن المحبة والإنسان، قطعًا لم تر شيئًا كهذا ولن ترى، فالإرهابي المتستر بالدين أو بفكرته المتطرفة آخر همه حالتك الإنسانية والنفسية، هو فقط يفكر بكيف يقنعك أن تهدم ذاتك بنفسك، هو يراك مشروع إرهابي آخر يجب استغلاله جيدًا.
إن الجماعات الإرهابية هي جماعات تشعر بالتهديد الدائم، وتجيد لعب دور الضحية باحترافية عالية، كما تجيد إقناع الناس بأن النعيم والخلاص تحت أقدام الإرهابيين فقط، ولكنها عاجزة تمامًا عن خلق الجمال كوسيلة لتحقيق مآربها، وإلا فلماذا لا نرى أفلامًا أو أعمالًا درامية تبشر بالفكر الإرهابي باستخدام الجمال والفن؟ إن ذلك في حد ذاته أمر غير منطقي، فمن يدعو للهلاك والخراب لا يمكنه أن يستقطب الناس بباقة ورد في يده، أو حتى بابتسامة حقيقية.
وختامًا، إن الجمال وتأثيره على النفس البشرية غير موجود في حسابات الإرهابيين، فكل ما لديهم هو خطاباتهم الجوفاء التي أكل عليها الزمان وشرب، وحقدهم الدفين على كل مظاهر الحياة الحقيقية، وكأنهم يعتقدون أن بقدر كرهك للحياة بقدر درجتك في الجنة، وهذا أمرٌ منافٍ لكل الشرائع السماوية التي تحمل رسالة واحدة وهي إعمار الأرض، وأيضًا يخالف الأخلاقيات الإنسانية التي حددها الإنسان من أجل حياة أفضل دون خوف أو رهبة من القادم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست