كان دائما لدي يقين بالعودة إلى وطني، أستقر فيه، وأختلط بناسه، وأحفظ معالمه، وأستدل على شوارعه، إلا أن هذا اليقين تحقق بعد فترة طويلة قليلا، لأبدأ مسيرتي الجامعية في غزة، قبل بداية اليوم الأول من العام الجامعي لي، ودعت عائلتي على أمل اللقاء بهم بعد سنة من الآن، والآن تشير الساعة السابعة صباحا، يدق المنبه، وتنهال الاتصالات من أمي، استيقظتُ بحالة من الاستغراب والخوف ربما! كيف سأذهب وحدي؟ أي طريق أسلك؟ هل سأتفهم طباع الناس؟ وكثير من الأسئلة تدور في رأسي؛ إذ نبهني السائق أن أعطيه أجرته وهو يقول “هذه الساحة وصلنا” سألته لو أردتُ الذهاب للجامعة ماذا أفعل ضحك، وهو يقول: “كل غزة يا عمو قطعة صغيرة وإنتِ لسا ما حفظتيها” لا يعلم أنني من الخليج ولم أستقر هنا قط، المهم أنه دلني بأن أوقف سائق آخر؛ ليقلني إلى الجامعة.
يتناقش الركاب في العادة عن المشكلات اليومية من قطع الكهرباء والحصار..إلخ، وخلال حديثهم يشيرون إلى بعض مسميات الشوارع التي نمر بها أحاول أن أركز أحيانا في كلامهم حتى أحفظ الطرقات، مررنا “برمزون الطيران” كان قريبا من الجامعة، قبالة الجامعة صف من عدد من مكتبات توفر كل ما يلزم الطالب وتتوسط الجامعة الإسلامية بين جامعتي الأقصى والأزهر، حاولت مراقبة الطالبات؛ لأسلك طريقهم في الدخول والاستدلال بالقاعات وتعرفت على إحداهن حتى أستطيع التعرف أكثر على كل شيء موجود هنا،كانت لطيفة معي فرحت كثيرا، انتهى يومي بالتعرف على الطالبات والقاعات والأساتذة، في طريق العودة كان علي أن أفكر بالغداء وماذا سأتناول؟
وبالتوقف عند الساحة هذا المكان الذي يعج بالناس من كل اتجاه في بدايته متجولوا النعناع والبقدونس والحوالات المالية، وبالسير قليلا تلمح على مد البصر سوق كبير على جنبيه باعة الخضراوات والفاكهة والبهارات والألعاب والجبن وكل مستلزمات المطبخ، الكل يصدح ببضاعته، سألت رجلا عجوزا: “حجي ما اسم هذا المكان قال لي سوق الزاوية” هذا المكان المتميز بطابعه الشعبي يتوافد إليه الصغير قبل الكبير الغني قبل الفقير اشتريت بعض الحاجيات، وأكملت الطريق، بعد الخروج من سوق الزاوية يقابلك شارع “عمر المختار” وما زالت ترافقني الشعبيات بشاورمة الحاج ورائحة النابلسية وتحميص البزر وشوي الكباب وبائع الترمس والفول وأطفال يلعبون وسط الشارع، ومنهم العائد من مدرسته، منهمك يغازل رفيقه بالهروب منه وملاحقته من زقة إلى زقة شارع يعج بالحياة البسيطة.
والآن اتجه نحو “موقف جباليا” وهو محطة لعدد من السائقين يحملون الناس إلى شمال غزة بيت حانون وجباليا وشارع يافا حيث أريد شارع يافا شارع قديم جدا، في بدايته تتوسط شجرة السدرة ومدرسة يافا القديمة في هذا الشارع أغلب ساكنيه مواطنون غزيون عائلات عريقة دليلا على قدمه، وأصبحت أيامي تعيد نفسها، وحتى أنقذ نفسي من الملل المهلك اقترحت على إحدى صديقاتي الذهاب إلى الميناء، وبحر غزة حيث المتنفس الوحيد لنا كان بالفعل هذا ما ينقصني هواء البحر، تُعرف ميناء الصيادين بتمثال الشهداء الطويل تلمحه من بعيد وهو يحمل أسماء شهداء سفينة مرمرة التركية ينتصب في منتصف الميناء حوله يلتقط الناس صور تذكارية لهم أو لغروب الشمس المذهل مع سفن صغيرة عتيقة تطفو فوق مياه راكدة.
وأصبحتُ مع مرور الأيام أتأقلم مع البيئة والناس، أحببتُ كل شيء بالرغم من حجم الألم، الكبير الذي تحمله المدينة مررنا بثلاثة حروب وحصار متواصل وخانق قرابة عشرة أعوام، وما زال، إلا أن كثيرا منا ما زال متمسكا بحبه لها، ما زال يوقن أن الوطن ليس فكرة عابرة متى نشتهيه، نزوره أو نكتب عنه وكفى، بل بات الكثير يحمل مسؤولية كبيرة على عاتقه، في البداية يتمنى البعيد منا أن يحفظ معالم مدينته وحين تمنحه الفرصة بالاستقرار يكبر الحلم ويصبح على أمل أن ينال وطنه الحرية الأبدية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست