إذا أردت من طفلك أن يكتشف العالم أكثر، تأكد أنك فعلت، وتأكد أنك شريك هذه الرحلة، وإن من أعظم الرحلات التربوية التي نتحدث عنها في هذا المقال هي رحلة تربية النحل، هل سألت نفسك يومًا وأنت تتناول بعض العسل اللذيذ مع شطيرة مصرية دسمة، أو على الريق لتقوية المناعة، أو لأغراض علاجية أخرى، كيف أهدتك الطبيعة شيئًا رائعًا كهذا؟ إن منتجات النحل لا تقتصر على العسل اللذيذ، لكن لحبوب اللقاح، وغذاء الملكات، والبروبوليس النادر، وكذلك سم النحل الكثير من الأغراض العلاجية إلى جانب الغذائية، هل فكرت كيف يمكن للنحل أن يكون مفيد لطفلك، عقليًا، ونفسيًا، ومهاريًا، وإبداعيًا، وعلميًا، واقتصاديًا.
تلقى الملك فاروق أول درس في تربية النحل على يد الدكتور أبو شادي في 24 فبراير (شباط) 1931 وكان عمره في ذلك الوقت 10 سنوات وعندما تولى الحكم كانت رابطة مملكة النحل تحت رعايته.
يعتبر الدكتور أبو شادي من أول المؤسسين لرابطة مملكة النحل العالمية بإنجلترا والتي تعرف باسم الأبرا، وهي أكبر جمعية للنحالة في العالم وتصدر مجلات عديدة في بحوث النحل.
وفي كتاب لانجستروث الذي صدر عام 1946 كان يعتبر أهم وأول مرجع في النحالة ونحل العسل ويشترك في تأليفه أكثر من 20 عالمًا، وقد حرر أبو شادي باب سلالات نحل العسل، بالإضافة إلى مؤلفاته الكثيرة في الشعر والأدب حيث أنه مؤسس جمعية أبولو الشعرية.
عزيزي القارئ هل تعتقد الآن أن النحل مناسب جدًا لطفل في عمر الملك فاروق حينها؟ هل تعتقد أن إبداع دكتور أبو شادي مرتبط باندماجه بالطبيعة وعناقه للبيئة؟ بكل تأكيد لكائن مقدس مثل النحلة تأثير عظيم.
ستجد أن القرآن يسمي سورة بالنحل، والحديث يحثنا على التعلم بالتأمل في حياة النحلة فيقول النبي المُعلم صلى الله عليه وسلم.
«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِدْ».
حديث شريف
بالرجوع بنظرنا إلى تاريخ أبعد يتعلق بحضارة أضاءت بالتأمل وعناق روح الطبيعة، الحضارة المصرية.
سنجد أن تربية نحل العسل في مصر معروفة وترجع إلى عصر القدماء المصريين، والآثار المصرية القديمة، ومن أقدمها الجدران المتبقية من معبد الشمس والتي يرجع تاريخها إلى 2500 سنة قبل الميلاد، وهذا المعبد كان يقع شمال أهرامات الملك زوسر بمنطقة سقارة وعلى جدرانه رسومات ونقوش تبين أحد مربى النحل، وهو يجمع الأقراص الشمعية من الخلايا، وقد عرف المصريين القدماء قيمة العسل الغذائية كما استخدموا العسل والشمع الناتج من خلايا النحل في تحنيط موتاهم من الملوك.
وقد عكف قدماء المصريين على دراسة طبائع النحل، ونظام تربيته، واستخدموا الدخان لتهدئة النحل، وكان مركز النحال المصري القديم ذا أهمية كبيرة حيث كانت تجمع الضرائب في صورة عسل أو شمع، وكان العسل يعرف بشراب الآلهة كما استخدم في علاج بعض الأمراض، ويوضع أيضًا في مقابر الملوك، وشمع النحل استخدم في تكفين وتحنيط الموميات من الملوك.
كما كان قدماء المصريين يرمزون للملك بالنحلة، كما ترسم النحلة على تاج ملوك الوجهين البحري والقبلي، ويؤكد ذلك ما عثر من رسومات على الآثار المصرية القديمة.
استمر النحال المصري يستخدم الخلايا الطينية البلدية حتى بداية القرن العشرين (1900)، وفي عام 1907 كان محمود إسماعيل أول من ربى النحل في خلايا خشبية، واستخدم الخلايا الإنجليزية.
وفي عام 1910 أنشأت مدرسة الزراعة العليا بالجيزة أول منحل حديث خلاياه من المقاس الإنجليزي ذات الجدار المزدوج وكان يربى بها النحل المصري (نوع النحل الغربي – السلالة المصرية).
وفي عام 1915 قام المهندس علي حسين بالشرقية بتربية النحل على سطح منزله وفي عام 1917 أنشأ محمود إسماعيل منحلا لمدرسة الزراعة بشبين الكوم بالمنوفية، وفي نفس الوقت قام قسم الحش رات بوزارة الزراعة بإنشاء منحل بنقل نحل من 20 خلية طينية سنويًا إلى الخلايا الخشبية الإنجليزية، ويشتري لها ملكات من قبرص (النحل القبرصي) لإدخالها بها.
في سنة 1919 – 1922 تم إنشاء منحل الجمعية الزراعية بأرض المعارض، وتم تأسيس أول مركز للتدريب على أعمال النحالة في حديقة الأورمان وكان مكونًا من 30 خلية خشبية إنجليزية، وكان مديرها المهندس الزراعي حامد سليم الذي صار بعد ذلك عميدًا لكلية الزراعة بالجيزة.
لكن قصص الإبداع البشري والنحل في مصر لم تنته بعد، تحديدًا في صاو العاصمة المصرية القديمة (الأسرة 26 والملك بسماتيك) أو سايس أو صالحجر كما يطلق عليها حاليًا ابتكر النحال طارق عمرو مصيدة حبوب اللقاح.
ما يثير دهشتي دائمًا هو كيفية اندماج العنصر البشري مع البيئة وفطرة النحل المنظمة، نتعلم من النحل، نستفيد من النحل، يزدهر اقتصادنا، ونحتفظ نحن بالإبداع المقدس!
يمكنك بناء المسؤولية في كيان طفلك تجاه كل شيء باتخاذ النحلة نموذج يمكنك محاكاته لتتعلم، وباتخاذ الأجداد امتداد للابداع المضيء، فقيم مقاومة التلوث الذي يقضي على البيئة لا يمكن محاربتها إلا بحضارة صديقة للبيئة كحضارة النيل، على الطفل أن يستشعر أن النحلة صديقته مثلك تمامًا، إن لم تكن نحال بالأساس ستكون المهمة صعبة، فهل يتحقق الحلم ببناء مدرسة لتعليم مهارات تربية النحل والحياة، ربما.
النحل ثروة قومية واقتصاد دول، في كندا مثلًا يساهم النحل بتكوين ثروة مقدارها ملياري دولار، فإن منتجاته لا تتوقف عند الخلية، إن عملية تلقيح النباتات التي يقوم بها النحل مهمة جدًا لاكتمال النظام الطبيعي، والإنتاج البيئي.
النحلة كائن مضيء الظاهر والباطن فهو يسري في الطبيعة كما يسري النيل في كيمة، في القصة عبرة وفكرة.
ما دفعني لكتابة مقال كهذا ربما حنين النحالة الصغيرة داخلي، وإن توقفت عن تربية النحل الآن، يمكنني على الأقل أن أكتب عنه في زمن التلوث والفقر.
ومن تجربتي سأخبرك أن تربية النحل يمكنها أن:
– ستتعلم من خلال تربية النحل التأمل، وهو مهم جدا لصحتك الوجدانية، النحل لا يعالج بالعسل فقط!
– العناق الأبدي للطبيعة، إن احترام حشرة وتقدير حياتها مثير للتفكر في أنانية الإنسان وعجرفته في رحلته مع الكون.
– الشجاعة تأكد أن النحل بالرغم من بساطتها، تقدس بيتها المزدحم، تحميه إلى أن يأتي الإنسان ليستغل عملها الدءوب!
– الساعة البيلوجية السحرية، ودورة حياة اليوم منذ طلوع الشمس، ستتعلم كيف تحترم أوقات العمل الرسمية لصديقك النحل، وذلك لتحتال عليه وتعتني به!
– ستكون على علاقة شغوفة بفصول السنة، ومواسم قطف العسل، وجمع حبوب اللقاح، الأمر يتعلق بنظرة احترام لكل النباتات المهمة لنحلاتك النشيطة!
– قوة الملاحظة والدقة الشديدة، تخيل أنك تطمئن على صحة الملكة والحضانة.
– الهدوء والنظافة، احذر أن تقترب من المنحل برائحة كريهة، النحلات لن تتعامل معك بلطف!
- احترام الإناث وإن كن عقيمات، النحلات لا تتقبل الذكور في الخلية!
الأهمية الأكثر إقناعًا دائمًا هي الاقتصادية ولنا في قرية شبشير الحصة بالغربية نموذجًا، هى القرية الوحيدة على مستوى الجمهورية التي لا يعاني شبابها من البطالة، فعقب تخرجهم من التعليم يتوجهون إلى العمل فى المناحل، يتعلمون فيها كيفية تربية النحل وإنتاج العسل، بداية من صناعة الخلية الخشبية حتى قطف العسل وبيعه، ويبين شيخ النحالين بالغربية، أن القرية تعتبر قلعة من قلاع تربيته وإنتاج مشتقاته على مستوى الجمهورية، وتصدر سنويًا نحو 200 ألف طرد نحل، و300 ألف طن عسل، ما يسهم فى تنمية الاقتصاد، إلى جانب علاج مرضى السكر وفيروس سى والتهابات العمود الفقرى وخشونة المفاصل، مشيرًا إلى تجاهل الدولة للنحال، الذي لا يسانده أحد على تطوير مهنته والارتقاء بها، ما يجعله يعتمد اعتمادًا كليًا على الجهود الذاتية بداية من صناعة الخلية ووصولًا لإنتاج العسل حتى تصديره.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست