“هو أنت تبع مين؟” سؤال يواجه كل منا، حتى ولو لم نُسأل صراحةً، فعلى ما يبدو أنه مطلوب له إجابة إن كنت تريد أن تحيا وسط مجتمعنا. فهناك الكثير على المحك، بدء من تحديد مستقبلك ونزولاً حتى لطريقة النظر إليك.
حسنأً! لنرى ما هي اختياراتنا علَّنا نجد إجابة؟ فهل أنت ” أهلاوي ولا زملكاوي ولا ملكش في الكرة؟ أنت إخوانجي ولا ثورجي ولا سلفي ولا فِل ولا سيساوي ولا ملحد ولا دولجي؟ أنت روش ولا دحيح ؟ أنت اسكندراني ولا فلاح؟ ”
العجيب أيضاً أنك في أغلب اﻷحيان لن تتاح لك الفرصة كي تقرر، فسيبادروك بـ “آهاا أنت منهم” أو ستراها في أعين مفتشك بعد أخذه تنهيدة وإمالة رأسه إلى أعلى في حركة تدل على الوصول للحقيقة والاستقرار مرة أخرى، نعم استقرار!
فوجودك بلا “تيكت” على جبهتك يربكه، هو يحتاج هذا “التيكت” ليبحث في عقله عن مجموعة اﻷفعال المتعلقة به، هل يحترمك أم يحتقرك؟ يساعدك أم يعرقلك؟ يتودد إليك أم يتجاهلك؟ وتجد من يبادر بوضع “تيكت” على جبهته طمعاً في الانتفاع بمتعلقاته حتى وإن لم يكن ينتمي له باﻷساس وحتى إن لم ينتفع فعلياً!
ولكن عملاً بـ “إن فاتك الميري، إتمرمغ في ترابه” والتراب كافٍ للبعض ليغطي به حقيقة نفسه أمام نفسه أولاً ثم اﻵخرين.
عودةً للسؤال وللإجابات المقترحة، لا أدري إن كنت أياً من هذه الاختيارات! قد أكون كلها في آن واحد وقد لا أكون أيا منها في أوقات أخرى، قد أصبح راضياً بما هو مكتوبٌ علي جبهتي وأمسي ناقماً عليه. هل هذا تحيرٌ مني؟ فأنا “ما زلت شاباً أهوج لا أعلم شيئا” هذه أقصي إجابة ممَن تكرم علينا وحاول أن يتفهم ململة بعضنا من وضع “التيكتس” على جباهنا، “تكتس” وال “س” للجمع!
فنعم قد تكون من سعيدي الحظ الحاملين ﻷكثر من واحد حسب لزاوية الكاميرا المُسلطة عليك اﻵن، فقد تكون الشاب الواعي الفطن الجميل واﻷهوج التائه البذيء في نفس الجملة! لكن ماذا لو أن حيرتي زادت لضيق قائمة الاختيارات المعروضة أمامي؟ ماذا لو أريد إضافة أو إضافتين؟
ماذا .. ماذا لو أني لا أرضي عن هذا السؤال من اﻷساس؟ هل هذا مسموح به؟ إن كان لابد لكم من السؤال والتمحيص – نعم نعم، ندرك، من أجل مصلحتنا، فأنتم تريدون الاطمئنان علينا، جُزيتم، بقدر نياتكم – فهل ترضون لسؤالكم بديلاً؟ ماذا عن “من أنت؟”
من أنا؟ إن كنت أراه أكثر احتراماً، ولكن بكل تأكيد أكثر تعقيداً! فقد أفنيت حيوات عدة محاولةً الإجابة عن هذا السؤال. ولكن إن كنت تبغي إجابةً قصيرةً، فيجب أن تكون معقدة بقدر تعقيد السؤال “أنا إنسان” !
الإنسان هو أكثر الخلق المعروف تطورا، اﻷكثر تعقيدا في تركبيته، يقبع على قمة الهرم الغذائي، يسيطر على ما عداه من كائنات حية وغير حية. وإن كان ليس اﻷقوي بدنيا من سائر مخلوقات كوكبه، لكن له عقل أوصله ﻷن يطير في الفضاء ويغوص في اﻷعماق ويهد الجبال ويبني الناطحات للسحاب. فاعرف قيمتك!
الإنسان وإن كان بذكائه يبسط قدرته على ما دونه، فهو بالتأكيد ليس المسيطر على الكون. اﻷعاصير والزلازل والبراكين قد تنهي حياته، بل وجوده بالكلية. كوكب اﻷرض الذي يستعمره إن تحرك بعدا عن الشمس ﻷمتار لتجمد الإنسان، وقرباً ﻷحترق وفي كلٍ ما وجد حتي هواءه الذي يتنفسه.
كوكب المشتري – الذي يبلغ 1300 ضعف حجم اﻷرض – إن تحرك ﻷمتار قليلة لدمرت اﻷرض بفعل النيازك التي يجذبها هو بقوته الضخمة. هذه نقطة من بحر العلاقات بين أعضاء المجموعة الشمسية التي تدور حول هذا الكائن المهول المدعو بالشمس، هو في ذاته نجم متوسط الحجم يقع وسط مليارات النجوم اﻵخري في مجرتنا المتوسطة الحجم أيضاً. فاعرف حجمك!
قد يجد الإنسان صعوبة في أن ينزل على حجمه على أن يزهو بتفوقه. لذا دعنا نسرد المزيد من الشواهد بعيدا عن اﻷجرام الفلكية بأحجامها الفرية. ماذا عما يقرب من العدم؟ فيروس الإنفلونزا الذي لا يُري بالعين المجردة، والذي قد تقضي عليه بالغسيل الجيد لليد قضى على ما يزيد عن 50 مليون إنسان في عامٍ واحد، وليس من أزمان سحيقة،
ولكن أقل من مائة عام سبقت! هل تعلم أنه يوجد بالإنسان كائن حي بأعداد تفوق أضعاف عدد خلايا الإنسان؟ هناك ما يقرب من 100 تريليون (ألف مليار) بكتريا تعيش بداخل الجهاز الهضمي.
هذه الكائنات الدقيقة لها بالغ اﻷثر في حياة الإنسان فهي تحدد ما إذا كان لديه حساسية تجاه نوع أكلٍ ما، ومدي سلامة عملياته الغذائية، ليس هذا فحسب لكن لها علاقة بإفراز الهرمونات والتي تؤثر في مزاج الإنسان!
أكثر من هذا أن الانسان لا يملك التحكم الكامل بجسده، لا يستطيع مثلا أن يمنع تدفق الدماء إلى إصبع من أصابع يده. إذا كتم الإنسان نفَسه لفترة فقد تتأذى أعضاؤه: إن جسده يفقده الوعي ليتحكم بالكلية ويرجع لتنفسه الطبيعي. فاعرف قدرك!
بين أن يدرك الإنسان قوته وضعفه، حيلته وقلتها، عظم شأنه وهوانه؛ فيبدع ولا ينحرف، ويبني ولا يبطش، ويُعلم ولا يتكبر، ويتعاون ولا يتبع. يدرك أن لديه علم لا كل العلم، وله قدرة لا كل القدرة. يفهم نسبية كل شيء يفعله ونقصانه وأن الكمال غاية يسعي لها لا يملكها.
ما تراه وتظنه جل الحقيقة قد يراه غيرك شيئاً ثانياً، قد تراه أنت في وقت آخر شيئاً ثالثأً. لا تتعجب فأنت لن تكف عن التطور بقدر ما تتعلم وتختبر. قد تسمو أو تضمحل، ولكن حتما ستتغير، فلا حكمة في التشدد ولا في التشبث. حتى في أبسط الأشياء هناك دوماً رواية آخري؛ فمثلاً ما لون السماء؟ أزرق؟
ا، أنت تراها أزرقاً! ولكن كل البشر يرونها هكذا فهل كل البشر مخطئون؟ لم لا؟ فكل البشر يرون بنفس الجهاز البصري، من ادعى أن البشر يملكون الحقيقة؟ إن جاز أن ندعي للسماء لوناً فالأقرب للحقيقة أن اللون الغالب على السماء هو البنفسجي ولكن عين الإنسان محدودة في رؤيته فترى اﻷزرق، بعكس حيوانات آخرى مثل النحل ترى ألواناً لا يراها الإنسان. النحل هنا أقرب للحقيقة من الإنسان!
لكي نعلم ما يدور حولنا، قد نحتاج لفهم عميق لذاتنا. قد تصل في تكوينات اﻷنا أنه هناك على اﻷقل ثلاثة كينونات بداخلنا تصنع صورتنا الكلية كما يراها اﻵخرون. فهناك الجسد الحيواني الذي يمثل الماكينة التي نستقلها. وهناك نظام تحكم ابتدائي يضع الحدود ويسن القوانين العامة لقيادة هذا الجسد؛ فقليل أو كثير من الشجاعة بقدر القدرات الجسدية والعقلية، إقدام أو حيطة في الحركة بقدر كفاءة انتقال الإشارات من المخ للعضلات، وهكذا.
وهناك عقلك / قلبك / روحك بقراراتك وخبراتك المتراكمة منذ الولادة. في معركة دائمة مع الكينونات اﻵخري ليبسط نفوذه ويعلي كلمته. أري هذه الكينونات في التعارض الواضح في إراداتها المختلفة، فمثلا؛ تريد أن يصبح شكلك ملائماً؛ فتقلل من تناولك الغذاء، ينتفض جسدك ويغضب وكن واثقاً أنه سيريك غضبه! فتشعر بالتعب والإرهاق والدوار، يحثك كل الحث أن تأكل، تأكل أي شئ،
فقط لا تجعله يسحب من مخزونه الإستراتيجي، فالبطن الدائري الذي تراه أنت إعاقة في خطة الاستمتاع بشاطئ صيف غير مخجل، يراه هو حساب بنكي يضمن له مستقبل رغد من الحياة بلا مجاعة.
فأنت لا تدرك معاناته في آلاف السنين الطوال التي عاشهم المسكين في جوع حتى الموت، أنت تدرك فقط معاناة لبس الحزام بعد الغذاء! ترى فتاةً؛ لا يعجبك شكلها ولا لونها، ولا عقلها ولا لسانها، لا تري أي مستقبل لعلاقة إنسانية عاقلة.
كل هذا لا يهمه؛ جسدك، يراها فرصة لا مثيل لها لنشر جيناتك الثمينة التي يري أن البشرية ستنتهي من دونها، وثق أنه سيسمعك رأيه، وبقوة! إرادات مختلفة، خبرات مختلفة، جسد واحد، فمن ينتصر؟
تُعامل معاملة سيئة، تريد أن ترد السيئة، تواجه حاجزاً هائلاً يحثك علي التراجع، تعود منزلك، تفكر مراراً وتكراراً في الموقف، تحاول إيجاد رد مناسب يفحم، يأتيك الرد بعد فترة، تندم على تراجعك، وتلعن قلة جرأتك؛ أنت لم تدرك أن هذا هو عين السبب في قلة جرأتك، أن الرد جاءك متأخراً ! ماذا إن تجرأت فواجهت فتلعثمت فازداد الموقف سوء وازداد الجرح عمقاً؟ نظامك البدائي بحواجزه قد وفر لك الحماية وقلل خسائرك.
بيد أن هذا النظام كنظام بدائي لا يتطور ولا يتفاعل مع خبراتك المتراكمة، فهو قد لا يدرك أنك تعلمت رداً مناسبا لهذا الموقف، سيظل يمنعك ويضع الحواجز والموانع، وأيضاً لن تستسلم أنت حتى تعبر هذا الحاجز، وقد تهدمه! ولكن احذر فأنت اﻵن بلا حماية، فقط عقلك من يدير اﻷمور، وعقلك قد يخذلك، فأنت أيضا لا تعلم كيف تعمل هذه الكينونة العجيبة!
لا أحد يملك سر هذه المعجزة الكونية، عقلك، حاول الجميع وما زالوا يحاولون فك شفراته، فلسفات ورؤى ونظريات، ولكن لم يصل أحد إلى الحقيقة. حتى أننا لا نعلم مدي قدراته ولا منتهى طفراته، نعيش به مئات آلاف السنين، يبقينا علي وجه الحياة، ينقلنا من عصر إلى عصر، من فضاء إلى فضاء،
ولكن لا نملك سره! وحقيقةً لا أعتقد أنه يوما ما سنملكه، ستكون الحياة انتهت قبل ذلك؛ فَسر كهذا خطير خطر الوجود أن يملكه إنسان بتناقضاته وكِبره وتعجله، كيف لمن به نقص أن يمتلك سراً من أسرار الكمال؟
تطورت الهواتف النقالة ووصفت بالذكاء، فهي تسهر علي حاجتك وترشدك في ضالتك، وأيضاً تحافظ على بقائها وتحرص على امتلاء ذخائرها، وتسعى للحصول على تطويرات من صانعها، تدرك مهامها وكيفية أدائها؛ ولكن أبداً لا تعرف كيف تعمل ولا الغرض من وجودها، ولا تستطيع فك الشفرة المُسَيرة لها.
حتى وإن نالت إراداتها الحرة وحصلت على ذكائها الاصطناعي المرتقب، فسيظل اصطناعياً ومجرد تنفيذ لشفرة مُصنعها، فإن وصلت هي للكمال وتوصلت لسر صنعة الإنسان، فأنا انتظر الفناء، فالعدم والبقاء سواء، إن توصل من صنعته لسر صناعتي، وصار وجودي تحت رحمة من كان اصطناعيا.
لا أدعي الحقيقة، ولكن أؤمن بوجودها، فغيابها يعني عبث حضورنا. أرى الحقيقة كاملة فلا ينبغي ادعائها من إنسان به نقصان. أرى الحقيقة مطلقة فلا تحتاج إلى برهان. أرى الحقيقة إن أُدركت بالكلية فلا هي كاملة ولا هي مطلقة.
هذه أطروحتي فلست أقل إنسانية ممن سبقني، ولا أكثر إنسانية ممن طُرح بعرضهم عرض الحائط!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست