رحلة عبر الزمان والمكان

هل تستطيع كتابة حقبة تاريخية بمهارة في 214 صفحة فقط؟

هناك كتب من فرط جمالها لا نوفيها حقها، فأصعب ما تواجهه أن تعقب على كتابة أديب يملك أدواته ويوظفها كيفما شاء حيثما شاء. بالحبر الأزرق عنوان كاشف، لكنه مميز ومتفرد. لا يُصرح كاتب بسبب تسمية كتبه، إلا أن الرواية تخبرنا في أخر سطورها مغزى التسمية وإن كان متوقعًا أن رواية تحمل هذا العنوان ستكون رسائل متبادلة، أو أن الرسائل تكتب بلونين إما أسود أو أزرق. يسرد لنا الأديب هشام الخشن أحداث جرت بين عامي 1870 و1914 تبدأ الرواية بمكاتبات بخط يد ليديا وصيفة الأميرة نازلي والتي قدمت من إنجلترا ورافقت الأميرة في كل مراحل حياتها كظلها إلى أن توفت الأميرة عام 1914 وبهذا تنتهي أحداث الرواية.

الجزء الشيق في التاريخ هو ما دار وراء الكواليس، من ضعف إنساني، وقرارات تحكمها ظروف ومجتمعات وعادات وتقاليد. الفعل نفسه قد تدينه وتدور الدائرة لتعيده بحذافيره. لذلك يقال إن التاريخ يعيد نفسه لكن لا أحد يتذكر. المدهش في رواية تاريخية، أن تحمل الصفحات القليلة بحرًا من المعلومات الموثقة والآراء وشهادات من عاصروا تلك الفترة، بين الأستانة والقاهرة وباريس وجزء من حياة نازلى قضته في تونس، انتقلنا مع الكاتب دون أن نشعر من بلد لبلد ومن زمن لزمن دون أن يجرفنا التيار، أو ننسى الأحداث. والأجمل دون أن نأخذ انحيازات لطرف دون الآخر.

بعض الروايات تغوص بك داخل نفسك على عكس ما يبدو من رواية تبدو من الغلاف رومانسية حالمة، لكنك حين تقرأ تكتشف مدى واقعيتها وتفاعل أبطالها مع الزمان والمكان. إلى أن تقرأ أخر كلماتها فتكتشف بعدًا آخر في النفس والروح. أحيانًا نبحث عما نفتقده وحين يهديه الزمن لنا نتركه طواعية، هذا ما حدث مع ليديا حين كاتبت ابنها الذي هجرته رضيعًا رغمًا عنها في أحد الملاجئ بلندن، فظلت تراسله وتحكي له حكايتها وتمر في نفس الوقت على حكاية نازلي، وبعض الأحداث التي واكبت هذه الفترة. داخل القصور تحاك المؤمرات، ولا ينجو أحد من كيد أو مؤامرة إن لم يتآمر بنفسه فقد حرض أو حدث أن تم التآمر عليه. تتناول الرواية الصراع على العرش بين أولاد محمد علي، والنهضة التي شرع في تنفيذها إسماعيل، لولا أنه تحالف مع الباب العالي لإبقاء الخلافة في نسله دون إخوته فحفر قبره بيده.

يخبرنا الروائي هشام الخشن أيضًا عن وضع المرأة في ذلك العصر، وعن حرب نازلي وقاسم أمين وغيرها لتحسن وضعها وتقديمها في صورة جيدة لإنسان يهوى العلم والثقافة ولا ينقصها شيء. عقدت نازلي صالونًا ثقافيًا على غرار الصالونات الأدبية في فرنسا، استضافت فيها كبار رجال العلم والأدب في عصرها، أمثال محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وهدى شعرواى، وسعد زغلول. كثير ولدوا في عصور فائتة، لكنهم سبقوا هذه العصور، ونازلي ابنة مصطفى فاضل باشا وحفيدة محمد علي والتي تنتمي للأسرة العلوية إحدى المجددات، والتي ساهمت في تغيير وتطوير الحياة الثقافية والأدبية في مصر بما قدمته في صالونها الأدبي وبعلاقاتها الجيدة مع الإنجليز ورغبتها في نقل كل ما شاهدته من تقدم في أوروبا لمصر. أما عن ليديا فهي شخصية مثيرة للتساؤلات والحيرة، بين بلدين لا تعلم أيهما وطنها! نٌبذت من موطنها الأصلي ووجدت الحب والاحتضان في مصر. أخلصت لنازلي لكنها لم تنس ابنها الغائب، وفاجأتنا آخر الرواية بجانب آخر من حياتها كنا لا نعلمه عنها حتى نهاية سطور الرواية.

ما أعجبني في الرواية هو عدم استباق الأحداث، وفك رموز الغموض في ميقاته تمامًا. أعجبني أيضًا الانتقال بين الأزمنة والسفر عبر الماضي والعودة للحاضر دون ألم أو معاناة. لغة الكاتب الرصينة ومفرداته التي تناسب هذا العصر ألفتها ولم أشعر بغرابة معها. أما أكثر ما أعجبني فهو وصف الشخصية المصرية وربطها بمصر وكيف أن الأماكن تؤثر على ساكنيها.

رواية فائقة الجمال وتستحق القراءة والتأمل، وتثير الكثير من الأسئلة، وتجيب عن كثير أيضًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد