هل أحسست بهذا الشعور من قبل؟ بالتأكيد لقد مر عليك ولو مرة واحدة في حياتك على الأقل. أن تترك نصفك الآخر وأنت لا تريد، أن يفلت أحدهم يده عنك بينما أنت مُتشبث بطرف جلبابه كالطفل. أن يُغلَق في وجهك باب صديق، أب، أخ، أو:

 

«حبيب»

هذا الفيلم القصير الذي قام ببطولته سيد رجب وسلوى محمد علي، صدر عام 2019، ومن تأليف وإخراج شادي فؤاد. ربما حُبي للأفلام القصيرة وشغفي الذي لا ينطفئ نحو الفن الصادق، والقصة المُنتقاة بعناية لتُعطىٰ للجمهور مثل كبسولة مهدأة للأعصاب، هو ما دفعني لمُشاهدة هذا الفيلم، وربما ملل الليلة الماضية لا أدري، لكن ما أعرفه هو أنني لم أندم على الدقائق التي أهديتها لحبيب وقصته.

الرجل الستيني الغارق في الإنكار على آخره، «حبيب» الذي تورَّط في خياله لأنه أحب ولأنه فقَد. هو بسيط، بسيط جدًّا، يعمل حلاقًا رجاليًّا، بيته هو دكانه الصغير، ودنياه تكفي لزوجته وعمله وابنه المسافر وابن صديقه الذي أصبح هو نفسه صديقه. «حبيب» رفض واقعه الأليم وتعامل مع حبيبته وزوجته كأنها معه، فوهبها وجوده بعد فراقها الموجِع. وتلك هي المرحلة التي يدخلها البعض منا بعد الفراق، سواء أكان بأيدينا أم لا، وسواء كان هذا الفراق انفصال، طلاق، سفر، أو موت.

لقد جمع هذا الفيلم بين أكثر من شعور: الضحك، الحب، الدموع، الشوق، الخيبة، العجز، وأجلهم هو الشعور بالضياع. وبينما كنت أتابعه تذكرت أغنية للفنان الراحل طلعت زين قال فيها:«كان في هنا قلب، ودَّعني وراح». وهذا ما حدث تمامًا، كان هنا قلب ودَّعه ورحل وبقي هو وحيدًا، يكتب شعرًا لطيفًا لامرأته يغازلها به، ويلاطفها بطفولة وحُب واضح. يتعايش مع فكرة عدم وجودها بوجودها المزيف. يخلق لهما عالمًا عاطفيًّا في خياله وينغمس، هذا العالم يدس فيه الونس، الونس الذي استكثرته عليه الدنيا؛ فاستحضره عنوة وعاش وتعامل معه وكأنه حقيقة.

للوحدة أنياب تغرزها في أرق أفئدة. وكان «حبيب» يملك فؤادًا رقيقًا لم يتحمل رحيل الزوجة؛ فضاع لفقدان روحه أو فقدان جزء من عقله.

من نقاط قوة هذا الفيلم هو شادي فؤاد المؤلف والمخرج، فلقد رسم أبعاد الشخصيات رسمًا متمكنًا، وكذلك تتابع الأحداث ورتمها المتماسك غير المُمل، حتى حِس حبيب الفكاهي كان مُقنعًا وفي محله، وأيضًا معاناته عُرِضَت بسلاسة وإتقان دون افتعال أو زيادة أو نقصان.

زوايا التصوير كانت صحيحة ملائمة وخادمة للقصة، حيث الدفء الذي يتخلل علاقة الحُب بين الآباء وربما الأجداد، الصورة كانت طبيعية ومُريحة للعين ذات ألوان مناسبة، وما لفت نظري وأعجبني بالأخص هو اهتمام المخرج بديكور المنزل والمحل، عبَّر تمامًا عن زُهد البطل في الدنيا، وعدم رغبته في تجديد أي شيء طالما الوحدة تُشاركه السكن، ورُبما الفقر.

كما رأيت سعي «حبيب» وراء تحقيق أمنية «نادية» الزوجة عذبًا جدًا وسببًا منطقيًّا لتخبطه في الحياة فيما بعد، تلك الأمنية التي وضَّحت كيف يُحب، وكيف يراضي المحبوب. وضَع «شادي» أمامنا «حبيب» التائه، الرافض لواقعه القاسي، وربما المُشرد، وهذا لأنك قد تكون من ساكني القصور ولكنك بلا مأوى؛ لأن بيتك وأمان قلبك غير موجود. الموجود فقط هو الألم الذي كان يتجلى في صوته وسؤاله المتكرر في مكالماته للابن المُغترب عن وقت عودته.

«الدنيا وحشة قوي يا كمال، أنا مازعَّلتهاش عشان تسيبني كده!»

كان يملك من الحُب ما يجعله يؤنِب نفسه على موت زوجته. رُبما يا حبيب في حياة أخرى، في سهرة أخرى ستجلس معها على شط النيل. حينها فقط، فقط سيسمح الزمان يا جميل.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد