أثارت دعاوى خلع الحجاب، فضلا عن المناظرة الأخيرة التي جمعت أطرافا ثلاثة هم أسامة الأزهري والحبيب الجفري وإسلام بحيري – والذي أظهر السجال بينهم خلافا في الدين واتفاقا في السياسة – جدلا صاخبا في أوساط المهتمين بالشأن العام في مصر.
بدا الجدل الذي صاحب المناظرة – من وجهة نظري – غير متعلق بثقل المتناظرين، فحديثنا هنا ليس بالطبع عن فهمي جدعان ولا طه العلواني ولا نصر حامد أبو زيد، وغير متعلق أيضا بعمق ما أثير من قضايا حيث أن التاريخ شهد اشتباكا مع التراث في مساحات أكثر خطورة، فضلا عن أن فض الاشتباك بين الحداثة والأصالة سيظل قائما، بيد أن الجدل الذي صاحب تلك المناظرة يجب أن يدور حول البحث في ماهية نظام ما بعد الثلاثين من يونيو، وهو ما يجب نقاشه بعيدا عن مراقبين رأوا ذلك من باب حديث العصفورة وسياسة الإلهاء، وآخرون رأوها خلافا صحيا لابد من تزكيته.
فاستدعاء الدين في الخطاب السياسي أمر يبدو مستساغا لدى كل ذي سلطة مستبدة لا سيما في مصر، فالمستبد وخصوصا في بيئة كتلك يدرك أهمية الدين في تخدير الشعوب وتمرير الاستبداد وتطويع الناس وفق هوى الحاكم.
في دراسة للدكتور/ أحمد رفعت سيد، أشار الرجل إلى أن مجمل الخطابات السياسية للرئيس جمال عبد الناصر جاوزت الثمانمائة خطاب وذلك في الفترة من العام 1952 وحتى العام 1970، كان نصيب الخطابات التي تحدث فيها عن الدين ما يقارب الستين خطابا بنسبة بلغت 6% من مجموع خطاباته، ومما تجدر الإشارة إليه أن الخطابات الدينية لعبد الناصر بلغت ذروتها في أعقاب النكسة (1967 – 1970)، الأمر الذي بدا متسقا مع الواقع التاريخي والسياسي آنذاك، فعبد الناصر رأى النكسة (قدرًا من الله) يتطلب (إيمانا عميقا).
يكفي أن تلوح بالدين، لتتفادى ثمة أسئلة مشروعة عن التقصير وسوء التدبير!
وكذا كان السادات (الرئيس المؤمن) والذي كان حريصا دوما على دغدغة مشاعر المصريين عبر إثارة عواطفهم الدينية حتى وإن وصل الأمر أحيانا إلى إثارة النعرات الطائفية، فضلا عن إعطائه الإسلاميين مساحة من العمل وزيادة في الثقل في مواجهة فلول الناصرية في مناورة سياسية لم تخل من دلالة. وكذا نفس الحال في العقود الثلاثة من حكم مبارك والتي شهدت تلازما كبيرا بين السياسي والديني، مما جعل الأزهر والكنيسة في مرمى ثورة الخامس والعشرين من يناير والتي عصفت بحكمه، لكنها لم تعصف بفلسفته.
وبإسقاط الأمر على الانقلاب وقائده، نرى أن السيسي – وعبر دعاية ساذجة من جماعة الإخوان – دشن نفسه قائدا متدينا يحث جنوده على الالتزام، ويلغي حظرا كان مفروضا على الصلوات أثناء التمارين العسكرية قائلا فيما نقل عنه (صلوا كما تريدون)، مع ظهور لافت لزوجته بغطاء الرأس، حتى وصف بأنه وزير متأخون أتى لأسلمة الجيش على غرار النموذج الباكستاني.
شرع السيسي في انقلابه وكان حريصا على أن تمثل المؤسسة الدينية بذراعيها الأزهر والكنيسة في مشهد الثالث من يوليو، مدشنا إستراتيجية ستتضح معالمها لاحقًا.
بيد أنك ستتفاجئ وربما تتهمني بالحماقة حين أخبرك أن – السيسي – نفسه هو أكثرهم حرصا على أن تبقى (متلازمة السياسي والديني في مصر) في أوجها، ولكن أي دين يريد؟
أتفهم أن طوفان من الاستشهادات الوجيهة ستطرحها علي، بدءًا من حديث مبكر ولافت لأول وزير خارجية بعد الانقلاب – سامح فهمي – وهو يصرح لوكالة أجنبية بأن المشكلة مع مرسي لم تكمن في كونه رئيسا جيدا أم سيئا بل كانت المشكلة في دفعه – أي مرسي – مصر نحو وجه إسلامي خالص، ومرورا بأحاديث (الناس النتنة) وفتاوى علي جمعة المعلبة، فضلا عن أحاديث – السيسي – المتكررة عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، ودعوته لثورة دينية تحول دون أن يثير المسلمون الذعر في العالم، وانتهاء بواقعة حرق الكتب الدينية وحالة الجرأة السافرة للإعلام على أفكار ومعتقدات لطالما آمنّا بأنها مقدسة.
كل ذلك يبدو وجيهًا، إلا أن نظام ما بعد الثلاثين من يونيو حين شرع في مواجهته مع الإخوان عمد إلى إستراتيجيات ثلاث، أولها هو الملاحقة الأمنية للجماعة وأفرادها مُسخّرًا في سبيلِ هدفٍ كهذا الدولةَ ومؤسساتِها، وثانيها هو تجفيف المنابع الاقتصادية والمالية للجماعة عبر السطو والمصادرة، وثالثها – وهو الأهم – هو تأسيس أيديولوجية دينية بديلة تبدو أكثر مهادنة للحاكم، وأكثر انتماءً للدولة وتوجهاتها، وأكثر إبعادًا للإسلام عن معاني المقاومة والتمرد إلى معاني الاستسلام للواقع وأكل الميتة، فيما يمكن تسميته بـ(علمنة الإسلام).
فإدراك الجنرالات لدور الدين البارز في الحياة والثقافة في مصر فضلا عن قدرة الدين على تعزيز الروح المعنوية وتوجيه الرأي العام كيفما شاء، كل ذلك أوضح للعسكر أن أهم جوانب المعركة مع الإخوان هو استعادة حصرية الخطاب الديني، وجعله حكرا على مؤسسات الدولة، الأمر الذي يعني بدوره استعادة الوعي الجماعي الديني من الإخوان وحلفائهم، وإظهار الدين وكأنه حديث – أسامة الأزهري – الهش، وابتسامة – الحبيب الجفري – الرتيبة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست