وأصبحتَ بين الحمدِ والذمِّ واقفًا *** فيا ليتَ شعري أيَّ ذاك تريدُ            *الإمام الشافعي

بأي عينٍ تنظرُ إلى الدنيا يا صديقي؟ بأي عقلٍ تفكر؟ وأيُّ دفقاتِ حسٍ تتابع على قلبك؟

هل تنظر إلى الدنيا بكلتا عينيك؛ أما أنك تنظر إليها بعينٍ عوراء؟ هل يعقلُ قلبك أم أنه في قطيعةٍ مع عقلك الذي بدوره نفى عن خواطره كلَ أثرٍ للعاطفة؟!

كثيرًا ما تكونُ انفعالاتنا متطرفةً في تقديراتها، وكثيرًا ما تُبنى آراؤنا وانطباعاتنا نحو الأشخاصِ أو الأشياء وفقًا لهذه التقديرات التي تكاد تخلو من أي أثرٍ للتفكير أو المراجعة.

وأنتَ في طور الطفولة قد يفاجؤك أحدُ أصدقائك بهديةٍ في عيد مولدك فتتولد في قلبك نبضاتٍ من الفرح الشديد المصحوبة بالمحبة البالغة لهذا الصديق الوفي، وقد ينشأ بينك وبين هذا الصديق ذاته شجارٌ لسببٍ ما يتطور إلى حد أن تتلقى من هذا الصديق صفعةً على وجهك، هنا وفي أقل من ثانية تتبدل مشاعر الحب والتقدير والاحترام لهذا الصديق المقرب؛ إلى مشاعر غضبٍ شديد تصاحبه كراهيةٌ كاسحة لهذا العدو اللدود صديق اللحظة الماضية!

من نقيضٍ إلى نقيض، من أحد طرفيّ العصا إلى الآخر، وكأن تلك العصا لا تتكون إلا من طرفين لا شيء بينهما.

تلك الرغبةُ الغريبة في صبغ الناس بأحد لونين، الأبيض أو الأسود.

بالطبع لك كل الحق أن تفرح بهديةٍ من صديق وتحبه على ذلك، ولك كل الحق أن يبلغَ منك الغضبُ مبلغَه إذا صفعك أحدهم، ولكن تكمن المشكلة في أن يصبحَ شعورك أحاديُّ اللون هذا ستارًا يحجبُ عنك كلَ عيبٍ لا تريد رؤيته إن أحببت، ويحجبُ عنك كلَ مزيِّةٍ لا تريدُ رؤيتها إن أبغضت.

حينَ تحبُّ شخصًا ما وتعتقدُ فيه طهارةَ الملائكة، وحينَ تكره شخصًا ما وتعتقد فيه شرَّ الشياطين؛ هنا تكمن المشكلة.

وبالطبع فإنك وإن رأيتَ في ملاكك المفترض هذا عيبٌ ما؛ يسارع إليك قلبك بمزيدٍ من الحب المقدس ويعمل جاهدًا لإقناعك أنك لم ترَ شيئًا يستدعي إعادة النظر أو التقييم في حبك أو تقديرك العاطفي لهذا الملاك.

وإن رأيتَ في ذاك الشيطان المفترض صفةً من الصفاتِ الحميدة يذكرك قلبك «وهل تأتي الشياطين بخير؟! أنت تريد أن تكره هذا الرجل، إذًا أنت لم ترَ شيئًا يغير من هذه الحقيقة».

أن تكونَ موضوعيًّا في أفكارك ونقاشاتك أمرٌ صعب، ولكنه أصعب أن تكون موضوعيًّا وعادلًا في عواطفك.

حين يتملكك الغضب ما يكونُ موضوعيًّا حينها أن تكسرَ شيئًا ما أو أن تضرب رأس أحدهم بعصا خشبية، وإذا حاول أحد أن يهدئ من جائحة غضبك فربما طالته تلك العصا هو أيضًا!

في مثل هذه اللحظات التي يُنحي القلبُ فيها العقلَ تمامًا ويخرجه عن دائرة العمل ومعالجة المعطيات؛ في مثل هذه اللحظات تتبلور رغبتُكَ في طلاء شخصٍ ما بلونٍ واحد وإلى الأبد: الحب، الكره، التعاطف، الاحتقار… إلخ، كل هذه المشاعر تتحولُ إلى ثوابت أبدية يحرص المرء كل الحرص ألا يقربها تغييرٌ أو مراجعة، يصبحُ أيٌّ من تلك المشاعر مقدسًا نأبى وربما نخشى أن نعيد النظر في قداسته تلك.

إصرارنا على أن نرى من حولنا إما بصفاءِ كوبٍ من اللبن أو بدنسِ كأسٍ من الخمر هو ما يخلق هذه المعضلة، أن تنقسمَ قلوبُنا إلى غرفتين إحداهما يملأُ جنباتها نورٌ ساطع، والأخرى تملؤها ظلمةٌ حالكة، وليس لمن حولنا إلا إحدى هاتين الغرفتين.

ما عليك يا سيدي إلا أن تنظر إلى الناس بعيني قلبك وعقلك معًا، أن تكبح جماح عاطفتك وتحدها بقدرها الذي لا ينبغي أن تخرجَ عنه، أن يعمل عقلُك وقلبك كرفيقي دربٍ متلازمين في جميع أحوالك، أن تُنزلَ الناسَ منازل البشر، لأنهم كذلك.

بشرٌ لم يزل في خيرهم بعض شر، وفي أشدهم شرًّا بضعةٌ من خير. فطرةٌ في الناسِ عُجنت بها طينتهم.

بسم الله الرحمن الرحيم «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾». صدق الله العظيم (سورة الشمس)

بنا جميعًا شيءٌ من الخير وشيءٌ من الشر؛ وأيًّا ما كان ما ستُغلبه منهما فلن تخلو نفسك أبدًا من الآخر، وكل الناس على هذا.

التطرف في اختيار أقدار الناس يُخرج الحياة عن طبيعتها ويُفقدك التوازن الذي أنت بحاجةٍ إليه كي تمضيَّ قُدمًا. وليس عليك يا صديقي لكي تمضيَّ قُدمًا إلا أن تحررَ عينيك من عمى الألوان الاختياري هذا، وتنظر إلى الدنيا على اتساع ألوانها التي من الظلم أن تُحصر بين الأبيض والأسود.

الحلُ يا صديقي أن تدرك أن لوحةَ الحياة أجملُ من أن تُرسمَ بلونين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد