عالمٌ افتراضيٌّ، أسماءٌ وهميةٌ، شخصياتٌ غير موجودة، ازدواجية، سعيٌ لإثبات الذات، ورغبة في الاستعراض، وشاشةٌ زرقاء تخبئ وراءها أكبر صورة “مزيفة” عن الواقع!
هذه هي دولة “فيس بوك ” الآن؛ وإن اعتبرناه دولة فستحتل المرتبة الثالثة عالميًا من حيث عدد السكان! ومن منبرٍ صغيرٍ أسسه “مارك زوكربيرغ ” في جامعة هارفارد للتواصل والتفاعل بين الطلاب، إلى عالمٍ افتراضيٍ كبير يسكنه ما يزيد عن المليار و400 مليون شخص! موقعٌ عجيبٌ يرتاده جميع فئات المجتمع من جميع الأعمار والأصناف والألوان!
و في ذلك الكوكب “البديل”، تستطيع أن ترسم صورةً لنفسك كما تريدها “أنت”! حتى باسمٍ مختلفٍ وصورةٍ مختلفةٍ وتفاصيل مختلفة! أو أن تصبح أكثر ذكاءً، أكثر نجاحًا، أكثر تسامحًا، أكثر شعبية، أكثر سعادة، أكثر إشراقًا، أو أن تلمع! وكل تلك الصور وإن اختلفت فإنها تتفق جميعًا في أنها افتراضية.. مزيفة.. غير حقيقية!
أما عن فكرة “فيس بوك” الأساسية فهي لم تكن كذلك، وأما عنّا عندما أنشأنا حساباتنا على “فيس بوك” فهذا لم يكن بنية تزييف الحقائق، أو تجميل الواقع، أو رسم صورةٍ مثالية غير موجودة عن حياتنا أمام العالم الخارجي؛ فنحن بأي حالٍ من الأحوال لم نقصد الغرق في تلك الشاشة الزرقاء، ولكنها استدرجتنا بدون أن نشعر، ولكننا أدمنّاها!
الثقة بالنفس.. ومن هنا يبدأ كل شيء!
فيس بوك هو وبلا شك تربةٌ خصبة لكل من لا يملك الشجاعة لمواجهة العالم الواقعي! لكل من لا يقدّر ذاته ويفتقد احترامها، لكل من لا ينتمي إلى واقعه فيضل الطريق وهو يزيّف شخصيته من وراء الشاشة في عالمٍ “افتراضيّ “، بدلًا من أن يرتقي بنفسه في العالم الحقيقيّ! فيرسم شخصيةً “خيالية” ويتعايش معها ويصدّقها، وهو لا يهتم إذا كانت واقعيةً أم لا، فهو يشعر بالأمان وراء تلك المعلومات الكاذبة اللي تملأ نقصه، وتمنحه إحساسًا “وقتيًا ” بالرضا عن النفس بعدما استطاع أن يثبت ذاته.. افتراضيًا!
و لم يتغير الواقع! بل إن الوضع ازداد سوءًا بعدما أصبحنا نعرفهم بأسمائهم وصورهم الحقيقة، وما زالت شخصياتهم مزيفة! والواقع يقول أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش طوال عمره في “حلم”، مجرد “حلم” وله نهاية، فاخرج من دائرة الخيال وارتقِ بذاتك وطوّر واقعك وواجه الحياة! قبل أن تستيقظ من حلمك على حقيقة أنك بنيت عالمك الافتراضي ولكنك في الواقع “لا شيء”.
اضغط زر «السعادة»
هل تساءلت يومًا عن سبب ذلك الشعور الجميل الذي ينتابك عندما ترى أن أحدهم قد أرسل إليك إعجابًا أو بلغة فيس بوك (لايك)؟ في الواقع قد تبين وبعد أبحاثٍ ودراساتٍ أجريت على دماغ بعض مستخدمي فيس بوك وجود علاقة وثيقة بين فيس بوك ومركز المكافأة في الدماغ وبالتحديد منطقة (النواة المتّكئة) المسؤولة عن نظام المكافأة، حيث يزيد نشاطها بمجرد الحصول على (لايك)! كما أنه يتم اندفاع مادة (الدوبامين) وهي المادة المسؤولة عن المكافأة والانتباه والإدمان أيضًا، وهي تؤدي دورًا رئيسيًا في الإحساس بالمتعة والسعادة، وفي كل مرة تشعر فيها بإحساس “المكافأة” فإنك تتطلع إلى المزيد من المكافآت والمزيد من الإعجابات والمزيد من السعادة، وهنا تكون قد أدمنت (اللايك)! فتكتب وتنشر وتعلق وتتفاعل فقط لتحصل على (المكافأة)!
ومن جهة أخرى فإن (لايك) هي رسالة من الشخص الآخر تعني أنا موجود، أنا مهتم، أنا أتفق معك، أنت تعجبني!
و عن اللايك أيضًا، يمكنك مشاهدة هذا الفيديو!
لأن الجميع يستخدمونه!
تخيل أنك استيقظت يومًا فوجدت جميع أصدقائك وأفراد عائلتك قد ألغوا حساباتهم على فيس بوك، هل ستظل تستخدمه؟
فيس بوك في المقام الأول وقبل كل شيء هو موقع تواصل اجتماعي أي أنه أداه لربط أفراد المجتمع معًا وتعزيز اتصالهم ببعضهم، إذًا فالسبب الرئيسي وراء كثرة استخدامنا لفيس بوك هو فطرة الإنسان ورغبته الشديدة في الظهور وسط الناس والتحدث عن نفسه ومشاركة تفاصيل حياته الصغيرة مع الآخرين حتى ولو كان لا قيمة لها، لأن الجميع يستخدمونه!
وهنا نعود إلى “عقدة النقص”! فالإنسان يميل دائمًا إلى كسب المزيد من القوة والمزيد من الجاذبية! حتى وإن اضطرّ لشراء الإعجابات، أو التقاط صورةٍ مع شخص مشهورٍ ليتباهى بصورته حتى وإن كان لا يحبه! كما أنه أفضل مكان لمرضى (داء الشهرة) الذين يسعون إلى كسب الناس بأي طريقة لزيادة الإعجابات، وليزدادوا شهره !
وهو أكبر وأنجح لوحة إعلانات، لأن الجميع يستخدمونه!
أخبرني بعدد معجبيك .. أخبرك من أنت!
هل تتذكر عدد المرات التي مسحت فيها منشورًا لك بعد أن مرت عليه ساعة لأنه لم يحصل على أي إعجاب؟ هي كارثة من كوارث مواقع التواصل الاجتماعي، الكارثة التي جعلت الإنسان عبارة عن أرقامٍ تمثل عدد ما يحصل عليه من الإعجابات والتعليقات على فيسبوك! الكارثة التي دمرت ثقة الكثيرين بأنفسهم لأنهم (لا يحصلون على إعجابات)، وأعطت آخرين ثقة مزيفة لأنهم (يحصلون على إعجابات)! وأصبح مقياس شخصيتك هو عدد الإعجابات التي حصلت عليها بعد نشرك لأفضل صورة (سيلفي) لديك! وحسب قوانين عالم الفيس بوك فمن لديهم أكبر عدد من الإعجابات هم الأفضل.. هم الأهم.. وهم فقط المسموح لهم أن يتحدثوا ويبدوا آراءهم في كل شيء، وفي أي شيء!
متلازمة فيس بوك
نعم، لقد أصبح الآن مرضًا رسميًا وعالميًا، مرض إدمان الفيسبوك FAD ) – Facebook Addiction Disorder ).
كم مرة دخلت على فيس بوك لغرض معين فاستدرجتك الصفحة الرئيسية وقائمة الإشعارات والرسائل وتوجهت إليهم؟ كم مرة أغلقت حساب فيس بوك من على الكمبيوتر ثم توجهت إلى النوم ففتحته من الهاتف لتتصفحه مرة أخرى؟
أغلبنا اليوم وإن لم يكن كلنا قد أدمنّا فيس بوك، أدمنّاه بحيث أننا من دونه نشعر بنقصٍ وبانعزالية تامة عن المجتمع، أدمنّاه فأصبح أسلوب حياة، عادة روتينية يومية تبرمجت أصابعنا أن تبحث عنها في كل مرة تمسك أيدينا بالهاتف أو جهاز الكمبيوتر! وأصبح لا عمل يقدّم على كتابة (بوست) أو نشر (سيلفي) حتى في المستشفيات!
و حولنا الفيس بوك من موقع تواصل اجتماعي مؤثر ومفيد إلى مرضٍ يصعب علاجه، ومن مجرد أداة تساعدنا وتسهل علينا حياتنا إلى حياة بديلة!
فهل يمكننا أن نعود لاستخدام فيسبوك كما كان عليه في الأصل؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست