لماذا ينتابنا الجمود بعد كل نجاح أو انتصار بدلًا من أن يدفعنا للأمام؟ ولم تسيطر علينا حالة مزمنة من النشوة والفخر وتمجيد لحظات انتصاراتنا التاريخية التي أثبتت قدرتنا على التحدي والإنجاز، حتى إن فشلت في إنتاج أي تغيير إيجابي حقيقي على أي مدى، إن لم تكن قد أدّت لنتائج سلبية؟
قد يكون ما سلف نابعًا من طبيعة شعورنا المتدنّي بذاتنا كمصريين، وقصور وعينا وإدراكنا لأنفسنا وللزمان والمكان والظرف والسبب الذي لأجله أخذنا على عاتقنا مشقة التحدي، فنحن نتفاجأ بقدرتنا على كسر الحواجز النفسية التي أصلّها فشلنا المتكرر، فنقرر الوقوف والتباهي على حساب السعي لاستثمار نجاحاتنا وانتصاراتنا لإحداث تغيير جذري مستمر.
تتحوّل كل انتصاراتنا لحادث طارئ مشوِّه لنمط الهزيمة السائد، الذي سرعان ما يسترد إيقاعه، بدلًا من اعتبارها طفرة تكسر النمط فيُبنى عليها مستقبلًا أفضل. نحن نستطيع النجاح أحيانًا ولكننا لا نريده دائمًا، لأننا لا نهتم سوى بالقليل منه، بالقدر الذي يكفينا لسرده كثيرًا، والعيش طويلًا على ذكراه.
حرب أكتوبر 1973
بحسب المعتقدات الدينية الكاثوليكية، كانت صكوك الغفران هي الإعفاء الكامل أو الجزئي من العقاب الدنيوي على الخطايا. وكانت تلك الصكوك تحل المذنبين من العقاب الدنيوي، وعادةً ما تُمنح مقابل أعمال خير أو صلوات أو مبالغ مالية تفرضها الكنيسة.
ويبدو أن حرب أكتوبر بالنسبة لنا كصكوك الغفران تلك. فقد أصبح جليًّا بعد ما يزيد عن أربعة عقود من المعركة، أنها أحلّتنا نهائيًّا من أن نوصم بالهزيمة والضعف والخيانة والعمالة حتى يوم البعث، بعد أن مُنحنا الصك مقابل دماء الشهداء. فصرنا نزايد بها على كل من يتّهمنا بالخزلان الذي تطوّر فعليًّا لفعل تواطؤ إرادي علني واضح. فمن الذي يستطيع المزايدة على بلد هزمت المحتل -يومًا ما- وقدّمت الشهداء؟
وبالقليل من التأمّل في حقائق وظروف حرب أكتوبر، ودونما اجتثات للحدث من سياقاته بالنظر إليه كمعركة عسكرية بين جيشين نظاميين وفقط، نرى أن انتصارنا العسكري قد استُثمر بطريقة أنتجت في النهاية ما حاربنا في الأصل للتخلص منه، أرض منزوعة السيادة في سيناء، وأراضٍ لم تُرد لنا في قطاع غزة –التي كانت تحت الإدارة المصرية حتى هزيمة يونيو 1967- والقدس الشرقيّة، وهو –بشكل ما– أسوأ مما وصلت إليه ألمانيا بعد هزيمتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهو بالتأكيد أسوأ كثيرًا مما وصلت إليه ألمانيا اليوم.
وما زلنا حتى اليوم نحتفل كل عام بذكرى انتصارات أكتوبر والعبور المجيد، واضعين نياشين البطولة على صدورنا ونحن نحاصر إخواننا في فلسطين، ونفتح أجواء سيناء على مصرعيها لطائرات الكيان الصهيوني، مكتفين برفع الصك عندما يتطلّب الأمر ذلك.
ثورة يناير 2011
حريّة؟ هل تعتقدون بأننا سنكون أحرارًا بالخارج؟ لا، لا مفر من المتاهة.
جملة في فيلم (The maze runner) جاءت على لسان أحد من كانوا يحاولون الفرار من المتاهة التي وُضع فيها مجموعة من الناس لأكثر من ثلاثة أعوام. قالها عندما صار على أعتاب الحرية، لا يفصله عنها سوى باب حديدي صغير. يبدو أنه امتلك ما يكفي من الفراسة ليعلم أنه لا شيء خارج المتاهة سوى متاهة أخرى.
قامت ثورة يناير ضد استبداد دولة الفرد وفساد بطانتها، تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية كغايات وأهداف أساسية. كسرت الثورة حاجز نفسي أصيل عند كل المصريين، فقد استطاع الشعب إسقاط رئيس الجمهورية، وهو ما لم يحدث في مصر منذ نجاح الحركة الشعبية عام 1805 بقيادة عمر مكرم في عزل الوالي خورشيد باشا عن حكم مصر.
إلا أن توالي الأحداث بعد ثورة يناير يشي بأن المصريين أضاعوا الهدف الذي ثاروا من أجله، وأحبوا الوسيلة وأدمنوها، ودأبوا في صناعة ما أطلقوا عليه ثورات لم تؤدِّ إلا للمزيد من الاستبداد وغلاء العيش وانعدام الحريّة وغياب العدالة الاجتماعية. وقد برع المصريون في صناعتهم لدرجة أن ما استلزمه عزل محمد مرسي كان أهون كثيرًا مما استلزمه خلع مبارك، وما سيستلزم الإطاحة بالسيسي سيكون مؤكدًا أكثر هوانًا وسهولة ويسرًا مما بُذل للإطاحة بمن سبقوه.
قرر المصريون اعتبار عزل رأس السلطة نهاية لكل ثورة، نهاية كافية لإعلان الانتصار وتكليل الثورة بالنجاح، فهذا ما يكفيهم للفخر والتباهي حتى وإن شاركوا المؤسسات القائمة على تجويع وقمع وظلم المصريين. بينما تبدو الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فالثورات التي تنتهي حيثما وجب أن تبدأ، تفر بنا من متاهة لأخرى لا حريّة فيها، والحراك الذي تحوي مكوّناته بنية الظلم والجور، حراك لن يثور على نفسه مطلقًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست