ملحوظة
كل ما ورد في هذا المقال والمقالات التالية مشاهدات يومية يراها كل طبيب عيون في وطننا، بعضهم يتجاهلها، وبعضهم مثلي تؤلمه وتحزنه، كثير من عامة الناس لا يعرفون تلك الحقائق فقررت أن أنقلها بصراحة ليعلم جميعنا الحقيقة المرّة.
العمى للفقراء!
دخل عيادتي بالمستشفى الحكومي رجل كبير السنّ، يحمل في يده الأولى أشعّات طلبناها منه في زيارته الماضية، كما كان يحمل في يده الثانية همّه وضنكه وفقره الذي كان يعيش فيه! كان الرجل مريضًا بالسُكّري منذ سنوات طويلة، بدأ يفقد نظره تدريجيًا حتى جاء إلينا ففحصناه وتبين أنه مصاب باعتلال سكّري بشبكية العينين، نزيف وارتشاحات أصابت شبكية عينه الكليلة ليضعف نظره ويحمل همّ مرضه فوق همّ فقره وحاجته! طبعًا طلبنا منه أشعات على الشبكية لنقرر كيف ستكون خطة العلاج المناسبة؟ طبعًا هذه الأشعات الغالية لا تتوفر في المستشفى الحكومي البغيض فاضطر المريض المسكين أن يتحامل على نفسه ويجمع 700 جنيه ليقوم بالأشعة في مركز خاص! وها هو قد عاد إليّ متوجّسًا لأقرر خطة علاجه، قرأت الأشعات فسألني المريض: ما العمل يا دكتور؟ فقلت له: أنت مصاب بارتشاح بمركز الإبصار وتحتاج حَقْنًا بالعين، فقال المريض: تمامًا موافق يا دكتور ولكن كيف سيكون الحَقْن؟ فقلت له: الحقنة ليست متوفرة في المستشفى لذلك ستشتري لنا الحقنة بخمسمائة جنيه ونحن سنحقنها لك! نزلت تلك الكلمات كالصاعقة على رأس المريض الفقير الذي يكاد لا يوفر احتياجاته الأساسية من المعيشة! ولكنه لم يكد يفيق من الصاعقة الأولى حتى نزلت عليه الصاعقة الثانية حين قلت له: وأنت تحتاج على الأقل ثلاث حقن بالعين الواحدة لنحصل على نتيجة مرجوّة! وهنا قال المريض كلمات تهتزّ لها الجبال وتتصدع لها الأرض: يعني يا دكتور إذا لم يتوفر معي خمسمائة جنيه فلن أرى مرة ثانية؟! بتلك الكلمات التي تنتحر أمامها الإنسانية خجلًا من هولها ويتفطر لها قلب كل إنسان بقي عنده ذرات من ضمير وقفْتُ عاجزًا مذهولًا أمام ذلك الرجل المسكين لا أدري بماذا أجيب عليه؟ فما كان من الرجل إلا أن انصرف حزينًا مغمومًا وقد هانت عليه نفسه تراوده أشباح العَمَى لتنضم إلى أخواتها من أشباح الفقر والضنك!
انصرف الرجل بمرضه وهمه ولم أره مرة ثانية وحتى الآن لا أعلم ما مصيره؟!
لقد كانت هنالك إجابة واحدة على هذا الموقف: أنت أيها المريض المسكين تعيش في بلد لا يحترم آدمية البشر ولا يأبه لهم ولا لكرامتهم! بل أنت لا قيمة لك أصلًا ليوفر لك بلدك ثمن علاجك، بل أنت عبء على هذا الوطن والأولى لك أن تموت وترفع هذا العبء عن وطنك إن كنت تريد خدمة هذا الوطن!
لسبب أو لآخر تم بعد ذلك إدراج هذه الحقن في علاج نفقة الدولة جزئيًا ليدخل المريض في معاناة جديدة بشكل مختلف! معاناة! وما المعاناة إذا كانت الحقن ستتوفر ولو جزئيًا على نفقة الدولة؟ لتفهم هذا الأمر خذ هذه القصة الثانية.
جاءتني مريضة مصابة بنفس المرض وتحتاج إلى جلسات ليزر على الشبكية لإنقاذها من مضاعفات السكر في أسرع وقت – لاحظ أن عامل الوقت مهم جدًا لإنقاذ عين المريض – ولكن لِحظها التَعِس تحتاج إلى حقنة في العين ضروريًا قبل إجراء الليزر فأخبرتها بذلك وقلت لها: إن تلك الحقنة ثمنها سبعمائة وخمسون جنيهًا – لاحظ أن سعر الحقنة زاد! – وإن لم يتوفر معكِ المبلغ فعليكِ أن تسيري في طريق إجراءات نفقة الدولة التي تستمر أسابيع! فقالت لي المريضة ببراءة: طيب يا دكتور إن انتظرت هذه الأسابيع قرار نفقة الدولة فهل عيني ستنتظرني؟! سكتُّ قليلًا ولم أدر ماذا أجيب؟ سكتُّ من الحيرة والألم الذي اعتصرني حينها! ولكني قررت أن أصارحها لئلا أخفي عنها شيئًا فقلت لها: الانتظار خطر على عينيك لأنه سيؤجل جلسات الليزر الضرورية لإيقاف تقدم المرض! ولكن إذا لم يكن معكِ المبلغ فما باليد حيلة! فكّرتِ المرأة قليلًا وأظن أنها كانت تفكر في نفقات بيتها وأولادها وقررت في النهاية أن تخاطر بعينها منتظرة دورها في نفقة الدولة وتلجأ إلى الله الشافي أن يحمي لها عينها إلى أن تحصل على قرار نفقة الدولة المنتظر!
تعجز الكلمات عن وصف مأساة تلك المرأة المسكينة التي لا تعلم أنها إن تخطّت انتظار إجراءات نفقة الدولة فستصطدم مرة أخرى بانتظار الحقن التي تأتي من خارج البلاد، فكثيرًا ما ينتهي المرضى من إجراءات نفقة الدولة ويقفون ينتظرون أسابيع أخرى إلى حين أن تأتي الحقن من خارج البلاد! بل الأدهى من ذلك أن مدة تنفيذ قرار نفقة الدولة ثلاثة أشهر فإذا نفدت هذه المدة قبل أن يحصل المريض على الحقن فسيضطر إلى تجديد قرار نفقة الدولة مرة أخرى! فيتساءل المريض المقهور: وما ذنبي في أن الحقن لم تأت حتى الآن حتى أقوم بتجديد قرار نفقة الدولة مرة أخرى؟! فتكون الإجابة الوجيهة: هذه هي الإجراءات أيها المواطن وعليك أن تحترم الإجراءات! بل هناك ما هو أدهى وأمرّ وهو أن حقنة نفقة الدولة أغلى من الحقنة العادية التي يشتريها المريض من ماله، ونفقة الدولة تغطي جزءًا من تكلفتها، لذلك قد يفاجأ المريض حين يستلم موافقة القرار أنه سيدفع مبلغًا أكبر من المبلغ الذي كان سيدفعه لو لم يسلك إجراءات نفقة الدولة! فالدولة دفعت جزءًا من ثمنها وعليه أن يدفع الباقي! هنالك يموت المريض حسرة وقهرًا على خسارته لماله الزهيد ووقته الضائع وعينه الكليلة المهددة!
في الجانب المقابل حينما يمرض الغنيّ في بلدنا ويحتاج هذه الحقن فإنه سيذهب فورًا إلى الطبيب في عيادته الخاصة وسيدفع ثمنها كاملًا وسينال العلاج في أسرع وقت قرير العينين لينقذ عينه من العَمَى! إن له الحق كاملًا في أن يرى ويستمتع بنعمة النظر ما دام معه المال، فهو ليس مثل هؤلاء الفقراء المعدومين الذين نصيبهم المرض والعمى والعجز!
وفي جانب آخر من العالم في هولندا كان لي صديق سافر إلى هذا البلد للتعلم والعمل أصيب بجلطة في وريد العين فاحتاج عمل تحاليل كثيرة لمعرفة سبب هذه الجلطة فتكلفت هذه التحاليل قريبًا من 60 ألف يورو! ولكن صديقي لم يدفع منها يورو واحدًا وإنما تكفلت الدولة بدفع كل التكاليف له على الرغم من أنه لم يكن هولنديًا! ليس لشيء سوى أنه عبر إلى الحدود الهولندية وعاش على أرضها فاكتنفته مظلة التأمين الصحي الذي لا يفرق بين هولندي وغير هولندي كما لا يفرق طبعًا بين غني وفقير لأنهم جميعًا بَشَر!
حينما أرى الطب في بلدي والطب في بلاد العالم الآخر على نفس الكوكب يتمزق قلبي كيف أن بلدًا غير عربي ولا مسلم يجعل الناس سواسية في حقوقهم البشرية في الصحة والحياة بينما بلدي بلد مسلمين وعرب يفرق بين الغني والفقير ويجعل نعمة البصر من حق من يدفع أما من لا يدفع فليس له سوى طريق مظلم نهايته الغرق في ظلمات العَمَى؟!
تحيطني تلك التساؤلات بأشباحها فتتزايد آلامي وأحزاني، إنها بعض آلام طبيب عيون!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست