هل قتلنا جميعًا “الوايت نايتس”؟
كان يا مكان، يا سعد يا إكرام، كان هناك بعض الشبان المصريين يريدون أن يشاهدوا مباراة كرة قدم في الستاد، الشرطة رفضت أن تسمح لهم بالدخول، وكان الشباب متهورًا بعض الشيء. فمات ثلاثون شابًا.
ثم برر مصريون آخرون المذبحة، باسم الأمن والحفاظ على هيبة الدولة. هؤلاء الشبان تحدوا السلطة في ظل أوقات عصيبة، قال المبررون، ولو كانوا احترموا الشرطة من البداية لما كان حدث شيء.
فمات ثلاثون مواطنًا. بالضبط كالعشرين مواطنًا الذين ماتوا منذ بضعة أسابيع لأنهم كانوا مشتعلين غضبًا إثر مقتل ناشطة سياسية في الثانية والثلاثين من عمرها، جريمتها أنها كانت تذكر الناس بسنوية الثورة. وبالضبط كما الخمسين شابًا الذين سيموتون في غضون أيام أو أسابيع من اليوم، عندما يقررون أن يتظاهروا ضد وحشية قوات الأمن. بالضبط كما الكثيرين الذين ستظل تُخمد أحلامهم وتُزهق أرواحهم، مطعونين بخنجر قساوة شرطتنا العمياء، وبالمباركات العبثية المفترسة التي يوزعها هؤلاء المستعدون لبلع القتل، بل الترحيب به، ما دام يرفع شعار “استرجاع الأمن ومحاربة الفوضى في البلاد”.
المصريون كانوا يعون المشكلة
غشامة قوات الأمن كانت واحدة من أهم مصادر المعاناة التي دفعت المصريين للنزول إلى الشوارع في الخامس والعشرين من يناير 2011، منادين بالحرية والكرامة. لا شيء جارح ولا مهين أكثر من أن تذل في بلدك ممن هم سبب وجودِهم، حمايتُك. عندما يملكون السلطة والجاه وبركات النظام، والوقاحة التي تصاحب كل ذلك، ولا تملكُ شيئًا. ضعيفـًا، ذليلاً.
قرر الناس أن يثوروا ضد النظام برمته، والداخلية كانت واحدًا من أعمدته. غشامة الداخلية كانت من أعراض نظام مبارك الملموسة المباشرة. المواطن العادي كان يعاني منها يوميًّا، وكان يأمل أنه لن يضطر إلى حمل ذلك الوزر الذي أنقض ظهره مجددًا، إن نجحت ثورته. ولكن كثيرين منا ما لبثوا أن نسوا، وبإذعانهم المذنب مهدوا الطريق للشرطة كي تعود أشد غلاظة. النتيجة: ما زالت تطاردنا اللعنة نفس. بربرية الداخلية.
ماذا حدث بعد الثلاثين من يونيو؟
ثورة الثلاثين من يونيو نجحت (على الأقل في هدفها الفوري) لأنها وحدت طموحات قطاعات واسعة من الشعب المصري كلها رفضت أن يحكمها “إسلاميون” غير ديمقراطيين. لكن هذا الائتلاف كان مسمومًا. كانت تتخلله مجموعات لا تؤمن لا بالديمقراطية ولا يحزنون، أغلبهم من المستفيدين من نظام مبارك. فئات لا تقدر التعددية، تحتقر الآراء المختلفة، تقتات على الاتهامات الغزيرة لمن لا يوافقونها سياسيًا، لا تعرف معنى احترام الآخر، لا مشكلة لديهم مع قمع أية معارضة، ومستعدة لتبرير قتل كل من يخرج عن القطيع، أو في أفضل الأحوال، لا تحرك ساكنـًا أمام مشاهد القتل.
هذه المجموعات رأت في عزل مرسي، ثم “التقفيش” في الإخوان واعتماد الحل الأمني الغاشم، ثم انتخاب السيسي، فرصة لا تعوض ليسترجعوا امتيازاتهم المادية والسياسية المفقودة. “منفوخين” إثر تغير الظروف، شاعرين بالقوة والحرية، شمروا عن سواعدهم وانطلقوا ينكرون شرعية أية وجهة نظر مخالفة. أنكروا أن ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت ثورة من أساسه. ازدروا “الشباب الأهوج” الذي دعا إليها وما زال يذكر بمبادئها. رحبوا شكل من أشكال القمع يهدف لخرس أي اعتراض، خصوصاً مع الإخوان ومع شباب الثورة. أي قمع.
وباء التعصب معدي، خاصة في إطار الحركات الشعبية أو الثورية. مدفوعين بغباء الإخوان الأسطوري وتطرفهم، استسلم كثيرون إلى نزعاتهم الفاشية الباطنية، وركبوا على متن قطار الكراهية. سقطوا ضحية الوباء وانضموا إلى المتعصبين.
شعروا أنهم جزء من شيء كبير مهم. شعروا أنهم أبطال في وقت الشدائد، وأن الشدائد لا تُجتاز إلا بالحلول الجذرية الجريئة. تنازل كثيرون عن مبادئهم، وتقبلوا القمع. غيبوا خصلة النقد في عقولهم وأقلعوا عنه. تسامحوا مع فظاعة اقترافات الشرطة.
شطبوا على الديمقراطية من قائمة أولوياتهم. وكل هذا في سبيل “عودة الأمن وهيبة الدولة والنظام”. غير مدركين أن القمع وحش لا يُسدُّ جوعه. كلما أطعمته، كلما ازداد طمعه وجوعه وتوحشه. غير مدركين أن دورهم قد يأتي.
على من اللوم؟
قبل أن يحدث أي شيء، قبل أي تمرد شعبي، مصر كانت، أصلاً، أرضًا خصبة للتعصب. مصر بلد محافظ، نظام تعليمه متهالك مزر، غارقٌ في الأساطير الدينية والمعتقدات البالية والتطرف، وتقريبًا بلا أي سابق تجربة ديمقراطية. موجات الكراهية العاتية التي صاحبت فترة ما بعد أحداث الثلاثين من يونيو زادت الطين بلة. والحصيلة: مناخ من العداء المتبادل المستمر، وفقد حياة الآلاف.
لن أوجه أصابع الاتهام إلى الداخلية.
المؤسسة برمتها حالة ميؤوس منها. لومهم يبدو لي بلا فائدة في هذه المرحلة. برعاية مبارك، تطوروا ونموا كائنات مغرورة، مختالة، عنيفة، مجردة من الأخلاق، جاهزة للإجهاز على شركائها في الوطن من أجل حماية امتيازاتها الوفيرة. الرفض والاحتقار الشعبي الانتقامي بعد الثورة الأولى، الذي لم يدم طويلاً، مكنهم من تبني استراتيجية “العيش في دور الضحية” الرخيصة.
من هنا، بخطى ثابتة متأنية، بذلوا ما بوسعهم لاستعادة مكانتهم. وبعد ثورة الثلاثين من يونيو، سير الأحداث ساعدهم في أن “يلمعوا” من جديد، وأن يرجعوا بحلة غشامة غير مسبوقة، يضاعفها تهليل العديد من المصريين.
أوجه أصابع الاتهام إلى الرئيس السيسي. السيسي زعم مرة إن “محدش له عنده حاجة”، وأنه لن يتبع إلا العدل في أفعاله. مع الأسف، خذلني.
لم يبدِ أبدًا أي احتقار، أو حتى استنكار، للتطبيل الوضيع والتمجيد الدنيء الذي تمارسه وسائل الإعلام تجاهه. أبدًا لم يدن على الملأ توحش الشرطة (سواء فيما يخص فض اعتصامي رابعة والنهضة، أو أيًّا من العنف الذي سبقه وتلاه ـ هذا إن افترضنا تفاؤلاً أنه لم يرع هذا العنف)، ولا شجب عدم انعدام كفاءتها الفج، ولا أشار إلى احتياج هذه المؤسسة الحيوية الفاسدة، احتياجها الطارئ، لإصلاحات هيكلية عميقة. وبالتالي، أتاح المجال للمتملقين ليتملقوا ويتألقوا، وللعنيفين أن يعنفوا ويعصفوا، بسلبيته وصمته المريب. لا يسعني إلا أن أشكك في تمسك الرئيس السيسي بحماية الحقوق والحريات الأساسية، التي تُكوِّن ما يسمى بالديمقراطية.
أوجه أصابع الاتهام إلى كل المتعصبين، أي إلى معظم الشعب المصري حاليًا. تجدهم في كل مكان. يصرخون في جامعتك، يزعقون في مكتبك، يروجون للكره في المقاهي، ينشرون التطرف على مواقع التواصل الاجتماعي، يرددون معتقداتهم المتخلفة على شاشة تليفزيونك، يلقنونك متعاليين في بيتك.
تسمعهم يُسمِّعون نظريات المؤامرة التي حفظوها عن ظهر قلب، ونسخهم المصنعة الجاهزة لكل الأحداث.
تسمعهم كارهين فرحين يصفقون للقمع والعنف في سبيل الهيبة والنظام، وكأن القتل يعيد النظام ولا يشعل الفوضى ولا يغذي المرارة الانتقامية ولا يعطي للأفراد العنيفين سببًا أدعى لكي يمارسوا عنفهم. تسمعهم يغفرون بحرقة وسعة صدر وتسامح جرائم قوات الأمن، أو يعربون ادعاءً عن أسفهم على الأجساد التي أصيبت والأرواح التي سقطت، قبل أن يدينوا صدقـًا اندفاع وعدم نضوج الضحايا.
المصريون المتعصبون يمنحون غطاءً سياسيًّا ومعنويًّا لا يقدر بثمن لغيلان القمع. دعمهم النفسي وتفهمهم وتعاطفهم يساعد القتلى الباردين في ارتكاب جرائمهم دون أن يؤرقهم الذنب، دون حتى أن يستوقفهم ضميرهم. كراهيتهم السعرانة الطليقة من أهم مسببات حمام الدم الذي تغرق فيه البلاد.
لا تكون شريكـًا في الجريمة. لا تلطخ أيديك بالدماء.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست