الكتابة فعل مرهق وأحمق في بعض الأحيان، مسئولية النشر تجعل العملية أكثر تعقيدًا، أن تطرح للجميع ما خطته يداك، أن تعلن للكل أنك كاتب، تبدو الكلمة رائقة جدًّا، رقم الإيداع يعطيك لذة العظمة، والنقد قد يطلق عليك رصاصة الرحمة.
رغم تلك النظرة الحقيقية التي توحي بأهمية ما نكتبه، أو مدى جرم ذلك في بعض الأوقات، لكن تبقى الحقيقة الوحيدة أنه ليس هناك ضرر من تلك الكتابة، نسمع عن كتب غير مفيدة أو مملة، لكننا لم نسمع عن كتاب ضار إلا من الناحية الأمنية فقط.
أقيم معرض الكتاب في موعده السنوي 26 يناير، جاء حاملًا معه وجه مصر الجميل الحضاري المشمس المشرق الغائب طوال الوقت، جاء لينتشلنا من «شبه الدولة» و«شبه المسئولين» الذين يمارسون الحكم بطريقة «شبه تخريبية»، تخوفنا كثيرًا قبل ذلك اليوم، تعويم الجنيه لم يترك مجالًا إلا وخربه، الحديث عن العقبات التي وقفت في وجه هذا المعرض كثيرة، ولكن في النهاية تم وفرح به قلب كل قارئ.
بدأت قصتي مع معرض الكتاب في عام 2008، وتحديدًا حين وبخنا أحد أساتذتي في الجامعة، قائلًا: «المكان الوحيد اللي ببقى متأكد إني مش هقابل فيه حد فيكم»، كان ذلك قبل المعرض بأسبوع فوجدتني هناك في ثاني أيامه، المشهد بالنسبة لي كان مهيبًا، تعودت على التسكع في سور الأزبكية، والتلطع أحيانًا أمام مكتبات الشروق ومدبولي، كان صنف واحد يشبعني، فوجدتني أمام وليمة من الكتب أستطيع أن ألتهم منها ما أشاء.
المعرض وقتها لم يكن بتلك الشهرة، الرواد قليلون، والأعمار تتجه ناحية الأربعين فأكبر، ثورة يناير قلبت تلك المقاييس، جعلت المعرض أيقونة، وتوافد عليه مئات الآلاف، وتزامن ذلك مع ذلك انتشار دور النشر، وظهور وجوه جديدة في الكتابة، واكتشاف وجوه قديمة.
في العام الماضي بدأت ظاهرة أخرى في معرض الكتاب الذي أتتبع مسيرته منذ أن وطأت قدماي ثراه العظيم، وهي ظاهرة الكتّاب الشباب، ضف إلى ذلك زيادة جرعة ما بات يسمى «أدب الرعب»، دور النشر سهلت الكثير، و«سبوبة» الطبع كانت المستفيد الأكبر، قابلها هجوم زادت حدته خلال العام الجاري لاحظته بما أن حسابي على الفيس بوك يمتلأ بالصحافيين والكتّاب، ولخص الكثيرون الحال في جملة: «أمال مين اللي هيقرا؟».
نعود ونقول إنه ليس هناك أي ضرر من الكتابة، فليكتب الجميع ولينشر حتى لو استهان بالحرف وعجل بنشر كلمات غير مضبوطة أدبيًّا، مراهنتي على السنوات أنها قادرة على «الفلترة»، وترسيخ مبدأ «البقاء للأفضل»، و«البقاء لصاحب الجمهور»، والأخيرة ظاهرة في تاريخنا الأدبي كله.
نعم قد يبدو الأمر استسهالًا، ورغبة في الشهرة، محبو جيل الرواد «يعزّ» عليهم ذلك، أذكر أنني سألت أحد خريجي الجامعات حديثًا عن بعض كتابه المفضلين فذكر لي عدد من الأسماء لم أعرف منهم سوى اثنين –بالطبع ذلك جهل مني– لكن حين سألته عن جيل الرواد أمثال «محفوظ– ويحيى حقي– ومحمد حسين هيكل» فاجأني بأنه لم يقرأ لأحدهم، فضلًا عن عدم معرفته بالأخير .
من الناحية الأخرى حتى متى سيظل هؤلاء فرض عين لكل من يقرأ، الزمان يتغير، بعد عقود سيصبح الحديث عن هؤلاء العظام كالحديث عن الأصفهاني والطبري، هناك أجيال تظهر من الكتّاب والقراء، يتوارى القديم شيئًا فشيئًا، ويحل مكانه الحديث، شئنا أم أبينا تلك سنة الحياة، وبالتالي جهل هؤلاء ليس إلا استجابة للزمن.
أن يكتب الشباب أمر جيد، الكثيرون منهم قد يصبحون صناع ثقافة الغد، بعض الروايات لهم أفضل بكثير من العظماء حين كتبوا في بدايتهم، بالطبع اختلاف العصر ظاهر من اختلاف المصطلحات والعمق، ليس هناك «قصر الشوق» الآن ليكتب أحد عنها، ربما نفاجأ خلال السنوات المقبلة بـ«التجمع الخامس» لأديب واقعي جديد.
ظاهرة وجود كتّاب الظاهرة الذين يبيعون الآلاف من النسخ لكتابات «رديئة» في اليوم الواحد، ثم يختفون على طريقة علي حميدة في «لولاكي»، أو ظاهرة «الفولورز» أقصر الطرق للشهرة، يمكن اعتبارها ظواهر ضمن ديناميكية الحياة، فالمكتبات بها كتب أخرى.
الكاتب لا يمكن أن يكون إرهابيًّا، كما تقول القاعدة التي دومًا لها استثناءات، وبالتالي إقبال الشباب على الكتابة حتى من قبيل الشهرة أفضل من الإقبال على العمليات الإرهابية، أن يخط بقلمه حرف أفضل من أن يضغط على الزناد، الحال ينطبق على القارئ، أن يشتري كتابًا أفضل كثيرًا من أن يستمع لخطبة متطرف، حتى لو كانت أفكار بعض الكتب متطرفة فالقارئ عادة يستطيع التمييز جيدًا.
القراءة بطبيعتها «نداهة»، مَن يشتري اليوم كتابًا سيشتري غيره غدًا، حتى لو لم يفعل ذلك، فإن اقتناءه كتابًا أمر لا يضر في شيء، وأن يكتب فعلًا حميدًا حتى لو لم يقرأ أحد.
معرض الكتاب في حد ذاته إنجاز في دولة وفق وزير ثقافتها تخصص 3 جنيه فقط للمواطن من أجل صناعة عقله، في وقت يواجه فيه إرهاب لن يُحل إلا بالفكر، وجود هذا الحدث الأقدم، والأعرق في الشرق الأوسط يظهرنا أمام العالم أننا أمة نقرأ حتى لو كان ذلك بالتوقيت.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست