من المعروف أن مذاق البوظة العربية لا يقاوم إذا كانت جيدة الصنع فخمة المكونات، وأن عملها في المنزل ليس يسيرا، لكن ليس بعد الآن، فصفحة الطبخ الشهيرة يسّرتها على ربات البيوت وكتبت لهن الطريقة تحت عنوان: تعلمي طريقة البوظة العربية وتباهي بها أمام ضيوفك.
ثم توالت منشورات لوصفات أطباق أخرى من ضمنها حلوى «التراميسو» وكنوع من التشويق لمتابعات الصفحة كتبت مديرة الصفحة تقديمًا للوصفة: أشعر بالفخر عند تقديم هذه الحلوى للضيوف. لم يأتِ في خيالي حينها سوى جلسة الضيوف التي ستتباهى وتفخر بها صاحبة المنزل «بحلويات» صنعتها لهن. فإذا كانت ربة المنزل ستتباهى بالضيافة، فلابد أن يجد الضيوف شيئا آخر يتباهون به، كماركات حقائب اليد والهواتف المحمولة أو حتى الحُليّ الخانقة لأيديهن.
جلسة سيتخللها هذا الحديث لابد وأن تعج بأسئلة من قبيل: «مفيش حاجة جاية في السكة؟» و«بنتك هنفرح بيها إمتى؟» و…و… ربما كانت كلمة التباهي هذه نوعًا من «التجويد» من مديرة الصفحة للفت الانتباه للوصفة، ولكن ألا يحدث ذلك فعلا؟ أليس التباهي باللاشيء آفة حارتنا والحواري المجاورة؟!
تلك الحياة الوهمية أو الموازية التي نعيشها من أجل الناس لا من أجل أنفسنا، حتى بتنا لا نفرق بين حياتنا الحقيقة التي نريدها وبين حياتنا التي يريدها الناس، تلك الصور المقصوصة المصبوغة بالمؤثرات المُلقاة أمام عابري مواقع التواصل الاجتماعي والجرائم التي نرتكبها في حق أولادنا دون أن ندري كي لا «يفضحوننا» أمام الضيوف، براءتهم التي تتهتك يوميًّا أمام تروس تشوهنا حين ندخلهم مدارس «إنترناشونال» ونؤكد لهم هذه المعلومة كل يوم ونحفظهم اسم مدرستهم أكثر من أي أسماء مهمة أخرى في حياتهم وبالطبع بعد كل هذا لن نتحدث معهم باللغة العربية فنحن لم ندفع كل تلك الأموال كي نتساوى بطلاب المدارس «العربي» أو حتى اللغات الناشونال لا قدر الله، وحين اختيار الجامعات لابد من اختيار كليات القمة التي لا نعرف سببًا لتسميتها بهذا الاسم سوى اختيارها لأصحاب الدرجات العالية بصرف النظر عن إمكاناتهم الحقيقية، ولا نعرف سببًا لتشجيع أولادنا عليها إلا أننا لسنا بأقل من أحد والحمد لله.
وهكذا الزواج بـ«نيشه بنجفه بشبكته بقاعاته». في حين أن بإمكاننا فعل كل ذلك وأكثر من أجل غايات أخرى، وبأساليب أرقى، وبسواء نفسيّ يغنينا عن كل الهموم التي تصاحب النعم التي مكننا الله منها.
كم عاتبنا الأجيال السابقة عن إرث الأخطاء الضخم الذي تركوه لنا وآثاره علينا، وكم أنكروه أو اعترفوا ببعضه على مضض، فلما جاء دورنا لم نوفر جهدًا في ارتكاب ما استطعنا من كوارث بمسميات نعلم تماما أنها مزيفة ورغم ذلك لا نبذل جهدًا ملحوظًا في الإقلاع عنها قبل أن تأتي أجيال وتعاتبنا بمرارة عليها.
ربما كان الإصرار على هذه الأخطاء لأننا أدخلنا أعصابنا في دوامة شرسة لا ترحم ولن نتعافى إلا إذا خرجنا منها كليًّا وكففنا عن إثبات “شيء” للآخرين، صدقًا لا أحد يحتاج منا ذلك ولا أحد ينتظر. والشذوذ عن القاعدة ليس نقصًا ولا فلسفة فارغة تخبئ عيبًا ما، مادامت القاعدة أصلا غير طبيعية. وكل يوم نقرر فيه الخروج من تلك الدوامة قبل أن ينشأ جيل مسخ على أيدينا هو نجاح بحد ذاته، على الأقل نترك له طفولته يعيشها كما عشنا أيامنا ولا نتعجل عليهم التشوه، فلا العيب في مواقع التواصل الاجتماعي أو التكنولوجيا والأجهزة، بل العيب في نظرتنا العجيبة للحياة.
يمكنك عمل البوظة العربية لأنها أعجبتك، أو لأنك تودين تجربتها وضمان نظافتها، يمكنك أيضًا بكل بساطة تقديمها لضيوفك وسماع رأيهم فيها وربما تعديلها فيما بعد بناءً على آرائهم، جربيها بلا عُقدٍ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
البوظة