في ليل مكّة البهيم، يتجوّل الفاروق ليلًا قبل إسلامه، فيلتقي بعبدالله بن سُهيل بن عمرو، وقد خرج هو الآخر وهْو يُفكّر في دعوة محمّد –صلى الله عليه وسلم- لأهل مكّة، فيكون بينهما حوارٌ عجيبٌ، نصّه:
– عمر: عبدالله، ما أخْرجَكَ الساعة إلى هذا المكان وحْدَك وقد جَنّ الليل؟
– عبدالله: ما خرُوجك أنت؟
– عمر: ضاق صدري فأحببتُ أن أجْلُوَهُ بالنّظَر إلى السّماء والنّجوم.
– عبدالله: إذنْ .. فقد أخرجني الذي أخرجك.
– عمر: مهموم؟ ما الذي أهمّك؟
– عبدالله: هل يعيشُ الرجل بقلبيْن يا عُمر؟ واحدٌ لنفسِه، وآخرٌ لغيره؟ هل نُطيع آباءنا ونعصي أفئدَتنا؟
– عمر: ويلك! أهْوَ الإسلام يراودُك؟ إن كان الإسلامُ هو ما يراوِدُ فؤادكَ، فأطعتَهُ وجهرتَ به وتحمّلت له المغارم، فأنت خَصْمِيَ الجديرُ بإعجابي وتعظيمي، أمّا إن جبُنت وآثرتَ السّلامة على غير ما تعتقدُه فأنت حليفيَ الجديرُ باحتقاري له وازدرائي، فلا أدري كيف أنصحُك!
– عبدالله: بلى، قد نصحتني يا ابنَ الخطّاب
ثم يفترِقان فيمضي كلّ منهُما في طريقه، ومن هذا الحِوار عرفنا أينَ تشير بُوصلة عمر الفاروق، وكأنّه يقول لكل من تَصله الكلمات، لا تكُن إمّعة ذا وجهين، ولا تكن جبانًا رعديدًا يُخفِي غيرَ الذي يُبدي، ولسانُ حاله: لا أريدُ تابعًا جبانًا لا مُروءة له.
بوصلة عبدالله بن سُهيل كانت دائمًا تشير إلى الصواب، فقد ذَهَبَ لأبيه وهْو سيّد قومِهِ وهو أحد من يسُوم الناس العذاب ليعودُوا عن دين الإسلام، فَجَهَرَ في وجهِه قائلًا (اعلمي يا أبتِ أنّي قدْ أسلَمتُ)، فكانت كلمةَ الحقّ هي أول ما بدأ به.
وَعَتْ ذلك الشُّعوب المُسلمة في البلدان العربيّة بعد طُول تَمَلْمُلٍ وبعدَمَا أغمضت العيون على القذى فَكان ما كَان، فَاسْتلهَمَت من سِيرة جدّها عبدالله شَجاعته، كان ذلك على حِين غفلةٍ من سَمَاسِرة الشُّعوب وباعة الأوْهام، فتعلّمت كُلّ الشّعوب المُسلمة سَوَاءً التي شهدت بلدانُهم الثّورات أو حتى التي لم تشهد واكتفت بمشاركة الثّائرين القلوب، والأعينَ التي تسمّرت على الشّاشات، فقاموا جميعًا بضَبْطِ بوصلاتِهم من جديد، فالحريّة، الكرامة، التّداول على السُّلطة، هي الاتّجاهُ الذي ينبغي أن تُؤشّر له بُوصَلاتُهم، خاصةً أنّ عِقْدَ الظّلم قد انفرَطَ، وانتهتْ صلاحيّتُه وآذنَ تاريخه بِصُرْم وماتَ مُخطّطُوه وهَرِم مُنفذُوه فالبوصلة تشير للقِيم والمَبَادئ الآن.
هَاجر عبدُالله إلى الحبشة بعد أن أشارتْ له بوصلتُه بلزُومِ الهجرة، رُغْمَ أنّ أبَاه كان سيّدا في قومه، غير أنّ عبدالله كان يقولُ لأبيه وهْو يحاول منْعَهُ من الهجرة متعلّلا بأنّه يَمْنَعُهُ من البَلاء، فيردُّ عليه: (البلاءُ يا أبتِ أنْ أرى أصحابي يعذّبون ولا أملكُ لهم شيئًا)، وعندما جَمَعت قُريش جُموعَها للقتال فِي بدر، وقَد كان عبدالله رَجَعَ من الحبشة وسجَنَه أبُوه، أشارت عليه بوصلتُه الفطريّة التي تُشِير بفضْلِ نقاءِ سريرته إلى الصواب، أنّه يجبُ أن يكُون ممّن يشهدُ أوّل المشَاهِد مع رسول الله –صلى الله عليه وسلّم-، فأصرّ عَلَى أبِيه أن يَخْرُجَ معهُ لقتالِ المُسلمين حميةً لَه، فلمَّا خرج مع أبيهِ إلى بدر، ولمّا التقى الجَمعَان، تَحوّل إلى المسلمين وقاتل معهُم، فكان من البُدور البدريين، ومُجَددًا لم تَخْذله بُوصلة سرِيرته النقيّة، وإنْ أُسِرَ والدهُ في هذه المعركة.
أدْرَكَتِ الشُّعُوب المسلِمَة نهاية عام 2010 م بعد أن رأت النيران تستعِرُ في جسد ذلكم التونسي «البوعزيزي» أنّ معركةً ستكُون، وأنّ منافسةً سَتَشْتَدّ، فكانت معركة كسر عظم توزّعت موازين القوي فيها بين معسكر الظّلم والقهر، حيثُ القُوى المَاديّة، وبيْن مُعسكرِ المبادئ حيثُ القوّةُ المعنويةُ، والإرثُ العظيمُ لأجدادٍ كعبدالله بن سُهيل، فَبَدأ سِجالُ الحَرب وتَحَرّرتِ الشّعُوب حتّى أعادَ الظّلمةُ الكرّة لينقلبَ العسكَرُ في مصر وتتناحر القوى العظمى في سوريا، وتتنازعَ أطرافٌ في اليَمَنِ وليبيا، وتنجُوا تونس بالهدنة عَلى حَذَر.
بُوصلة عبدالله الصّادق كانت صادقة تشير له كونُه مُسلمًا صادقًا يحمدُ الله الذي جَعَلَهُ من خير أمّةٍ أخرجت للنّاس، كانت بُوصلتُه تُشير له بعظيم مَنِّ الله عليه أن جعلهُ من نفرٍ يرفعُون عن البشرية كلّها عار الاستعبادِ والهَوَان، مِن نفرٍ يُحقّون الحقّ ويبطلون الباطل ولو كره المُجرمون، من نفرٍ نَذَرُوا أنفسهُم لِدَفْع العُلُوّ والطّغيان، لاسْتِنقاذِ بني آدم من دركات الهوَان والخنوع.
وبُوصلة أحفادِ عبدالله بن سُهيل الذين مَلَؤُوا سَاحات الحريّة في بُلدان الربيع العربيّ أشارتْ لهُم بكونهم أصحابَ وظيفةٍ ساقَهُمُ الله مِن بِيُوتهم إلى أقدارهم لِيُعِيدُوا لِذَوِيهم كرامَتَهُم.
وعمومًا، بِالرّغم من كُلّ ما حَدَثَ وسيحدُث، فثمارُ التحرّر بَدأت تُزهر فالجنرال السّفاح المصري رَضِي بانتخابات ولو كانت مزوّرة، وسيضطرُّ لإظهار سَوْأَته كلما قرّر عرض نفسه على النّاس، كذلك كَفَرَ أتباع النظام الجماهيري بهطرقات قائِدِهِمُ الهالك، وتزاحموا على مراكز تسجيل الناخبين في ليبيا.
يَجبُ أن تُعَايِرَ بقيّةُ الشّعُوب بوصلاتها، وتعي الدّرس؛ فَتَضْغَطَ على المُجرمِين بحزمٍ وتُوقِفَ طُغيَان الحُكّام بكلمة الرفض لمنكراتِهم بشكلٍ جماعيّ، فالمعادلة التي تقوم على تأديب الأمّة للحكام وَحْدَهَا البُوصَلةُ التي تُشير للحريّة والميزانُ الذي يَضْمَنُ العدلَ وعدم الطّغيان، (وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ).
صدّقُوني سينقشعُ الظّلام بعد أن نعرف الحريّة، وسنُصَلّي في القدس بعد أن نؤمن بالحريّة، وسَيَجُر المحتلُّ أذيالهُ بعد ذلك، ومَا المتأخّرون في الانضمام لركبِ الحريّة إلا بِضْعَة «منتفعين» أو بضعةُ نفرٍ في فريق مُضلّل مَخدوعٍ تمكّن الأبَالسة بخبث الشّياطِين وخِسَة المُرابين وبِمَا هيمَنُوا عليه من طاقاتٍ ماديّة وإعلاميّة من التأثير عليه فكرًا وسلوكًا، وسيدْرِكُ المخدُوعون أنّهم مخدوعونَ، متى ما تحصلوا على قسط ولو يسير من حريّة الرأي والتّفكير أو حتّى بِمُعانَاتهم مرارة الدّمار والخراب والويل.
صحيحٌ أنّ الأمّة لم تستعد شبرًا من أرض محتلة، ولكن لا يليقُ بأحدٍ أن يغفلَ عن الثمين الذي استعدنَاهُ في هذه الجولة، استَعَدْنا ما تَفنَى دونهُ الأعمارُ ولا يقاس بالأمتار، بصبرِ من كان في ميدانِ رابعةَ، وممّن يتحمّل السجون والتعذيب، وبفضل من كَتَبَ في سفر العزّ بابًا اسمه ملحمة صمود «قنفودة»، وبحكمة يمانيّة قلّ نظيرُها مع صبرٍ وتجلّد، وبصمود في غزة، استعادت الأّمة بُوصلة هِدايتها إلى مَعَارِج التّمكِين، استعادت الأمة هويّتَهَا، استعادتِ الأُمّةُ حَمْلَ الأمانةِ والرّسالة، استعدنا مَعْنَى الانتماء إلى الأمّة التي لا تفرقها الحُدود.
صحيحٌ أنّ الثّورات التي قَامَ خرَج فِيها أحفادُ عبدالله بن سُهيل بن عمرو، لم تحرّر أرضًا، وتكادُ لا تحكُم دَولة، وأنّ الثورات المضادّة كانت بالمرصاد على الأقَل حَاليًّا، لكنّ بوصلةَ الأحرار أشارت باتجاه ثورةٍ، حرّرَت الأمَّة من داءِ الوَهَنِ، الذي حذّر منه نبيّنَا محمّد صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست