ساد الاعتقاد لفترة طويلة أن معركة التغيير داخل الجيش قد انتهت بسيطرة جناح الجنرال قايد صالح ومجموعته الجديدة، وأن ذلك سيترجم تدريجيا إلى الخلاص من الرئيس ومجموعته باتجاه مستقبلٍ تُقرِّر تفاصيله العائلة الحاكمة الجديدة في الجيش.

 

لكن هذا الاعتقاد تأخر تنفيذه حتى أُلقِيت ظلال عريضة من الشكوك حول قدرة الجيش على التعامل مع الرئيس، وحتى رغبته في الخلاص منه، وربما بدا لبعضهم أن الجيش كان يشتغل حصريا لصالح بوتفليقة في معركته مع توفيق، وألا رأي له ولا مصلحة فيما بعد ذلك!

 

 

أو ربما فكر البعض أن بوتفليقة قد كسر قايد صالح وقد يقيله، بل إن بعضهم افترض موعدا محددا للإقالة، وها قد مضى عليه أسبوعان دون أثر من واقع. فما الذي حصل تحديدا؟

 

قراءة مجريات الأسابيع الثلاثة الأخيرة ترسم لنا بضعة سيناريوهات لفهم ما يحصل، وتعطينا مفاتيح توضيح أبعاد الخلاف الدائر وأفكار كل جناح في الخروج منه.

 

بدايةً، اتضح لكل ذي عقل أن الخلاف مستعر بين قيادة الجيش الجديدة ومعسكر الرئيس، وقد أعلنت القيادة الجديدة عن توجهها بصورة لافتة وشديدة الرمزية عبر تغيير واجهة مقر وزارة الدفاع لتصبح باللغة العربية والإنجليزية حصرا بدون أي وجود للحرف الفرنسي!

 

وقد عنى ذلك مرافعةً صريحة ضد معسكر الرئيس الذي يتمسح بأذيال فرنسا، عنى ذلك أيضا أن القافلة العسكرية تتحرك أخيرا خارج المحيط الفرنسي الذي هُزم شر هزيمة وتمت إزالة رموزه في الجيش.

 

 

وسريعا جاء الرد الرئاسي، عبر “إنزال” فرنسي مكثّف على العاصمة الجزائرية اشتمل توقيع اتفاقيات ومشاريع تعاون وصورة إجمالية رمزية تعلن من خلالها فرنسا أنها راضية على حاكم البلد وراغبة في استمراره، وأنها ترتبط به عبر مشاريع استارتيجية تعني أن بقاءه ليس محل نقاش، كما كان هنالك “إنزال” جزائري في باريس يعني هو الآخر بأنه بوتفليقة قد اختار الشريك المستقبلي والحليف السياسي، بما يجعل أية محاولة لتغيير الواقع القائم انقلابا معلنا ستقف ضده فرنسا . ومعها بالطبع المجموعة الأوروبية؛ باعتبار باريس المستشار الأوروبي الأول في قضايا دولة الجزائر!

 

وإذن فقد أصبح المشهد هو التالي: الخصمان غير قادرين على التعايش، وقايد ليس بإمكانه إزالة بوتفليقة في انقلاب أبيض؛ لأن العواقب الدولية لذلك ستكون وخيمة للغاية، بينما يواجه بوتفليقة مأزقا يتمثل في أن إزالة قايد صالح لن تكون ضمانة كافية له للسيطرة على الجيش؛ لأن أتباع الأخير والموالين له داخل الجيش كثيرون، ولا يمكن إحصاؤهم، ومعسكر الرئيس لا يعرف تفصيلا خارطة الولاءات الجديدة داخل الجيش؛ لأن الجهاز الذي كان يتكفل بمراقبة ضباط الجيش (المعروف اختصارا بـ DCSA) .. هذا الجهاز قد أصبح بحوزة قايد صالح وضباطه!

 

لا حل في هذا الوضع المستجد سوى التعايش على مضض إلى أن يكمل بوتفليقة عهدته أو يلتحق بربه وحينها سيكون الجيش على موعد مع منع الجناح الرئاسي من فرض مرشحه سواء قَبْليا أو بَعْديا عبر إدارة الصناديق الانتخابية التي تشرف عليها إدارة الأمن العسكري.

 

يدرك جناح بوتفليقة تماما خطورة الوصول لانتخابات يديرها الجيش لذا يأتي التلويح الرئاسي بلجنة مستقلة لإدارة الانتخابات بمعنى واحد هو توسيع عدد المتدخلين في العملية الانتخابية بحيث يتم تهميش دور الجيش وتمنح إدارة العملية للرئاسة والأحزاب المتحالفة!

 

لكن الجيش لن يكون غبيا هذه المرة، وإن أفلتت منه إدارة العملية الانتخابية فلن يعجز عن اختيار رجل يترشح باسمه ويضمن له الدعم لنكون مرة أخرى أمام معركة 2004 مكررة، جناح بوتفليقة ضد جناح قيادة الأركان.

 

نحن أمام مأزق حقيقي باختلاف الجيش وبوتفليقة، وواضح للغاية أن فرنسا تلعب لصالح الذي سمح لها باختراق الأجزاء الجزائرية والبحث عن الغاز الصخري في أرضنا وبمالنا ومكّن لها اقتصاديا وتعليميا، وواضح أيضا أن المحسوبين على جناح توفيق سابقا يعيدون حساباتهم، وليس بعيدا أن يلعبوا ضمن معسكر الرئيس بعد أن اتضح لهم أن عدوهم الحقيقي هو قايد صالح لا السعيد بوتفليقة .

 

وأوضح من ذلك كله أن خلافة بوتفليقة ستكون أهم معركة انتخابية في تاريخ الجزائر، فإما أن ينتخب شعبنا ممثلا للمصالح الخارجية في الجزائر في منصب الرئيس أو أن يختار بنفسه رجلا يعيد ترتيب وضعنا الداخلي بما يكفل حق شعبنا في تقرير مصيره، ذلك الحق الذي لم نسترجعه لغاية اللحظة!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد