وجد اليأس طريقه إلى نفوس شباب «الربيع العربي» بعد الردة التي أصابته، وصعود الثورات المضادة وهيمنتها على المشهد السياسي، من بعد جرعات الأمل والتفاؤل بوطن أفضل وغد مشرق ومستقبل مزهر؛ والذي صنعته الثورات المنعشة، والتضحيات الباسلة، والدماء الطاهرة.
وقتها كان الكل يعمل ويبذل ويضحي، والميدان اتسع للجميع؛ الذين وجدوا ما يقدمونه ويفخرون به مع اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. منهم من أنشد وغنى وألهب الميدان وزاد في زخم الثورة بصوته ولحنه وكلماته، ومنهم من أبدع بتصميم الشعار والرسم والجرافيتي، ومن طبب وعالج، ومن أجاد التصوير ونقل بعدسته وهاتفه سخونة الأحداث قبل أن تبرد، ومنهم من كانت دماؤه أيقونة للثورة، ولعنة على قاتليه. ومنهم…ومنهم الكثيرون، الذين سجلوا أنفسهم بأفعالهم في سجلات الخالدين، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.
يقول شوقي: دقات قلب المرء قائلة له … إن الحياة دقائق وثوان
فاصنع لنفسك بعد موتك ذكرها… فالذكر للإنسان عمر ثاني
واليوم أشد وطأة من الأمس، وأدعى لمقاومة اليأس، وإفراغ الجهد، وبذل الوقت، ورص الصفوف. والكل يستطيع . نعم تستطيع أن تفعل شيئًا، وأنتِ تستطيعين أن تفعلي شيئًا. لا تستقل جهدك، ولا تبخلي بكلمة. فإن الجبال من الحصي، والبحار من القطرات. فقط اضرب على صدرك، وقل: أنا لها.
إن إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان فردًا واحدًا، ولكن الله وصفه بأنه أمة، وأنت تستطيع التغيير وفعل المستحيل، وقادر أيضًا على أن تكون أمة وحدك.
فداؤك منك وما تبصر.. دواؤك فيك وما تشعر
وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر
تستطيع أن تكون فاعلًا في الحياة وأن تغير المستقبل للأفضل، وأن تكون رقما صعبًا لا يُستهان به، وتزيد بفعلك في الحياة وإلا أصبحت عبئًا وزائدًا على الحياة كما يقول «الرافعي»، وإياك أن تكون ممن قيل عنهم «وَيُقضى الأمر حين تغيب تيم… ولا يُستأذنون وهم شهود». وإياك أن توقفك الصخور الموضوعة في طريقك، فإن الصخور والعقبات تسد الطريق أمام الضعفاء، ويرتكز عليها الأقوياء. فكن منهم!
والتاريخ والحضارة صنعها صناع بجهود فردية قبل ظهور المؤسسية، منهم إبداع «الشافعي» في تدوين أصول الفقه عبر «الرسالة»، وإبداع «البخاري» في «تجريد الحديث الصحيح من الضعيف»، و«أحمد بن حنبل» في «محنة خلق القرآن»، و«ابن كثير والطبري والجبرتي» في «تسجيل التاريخ»، فحفظوا لنا أحداث ويوميات هامة في تاريخ الأمة، و«ابن خلدون» و«عبقرية الاجتماع والعمران»، وحفظت وسطية «القرضاوي» شباب الأمة من التطرف والارهاب.
وفي العلم والاختراعات، والتي نُسبت إلى مخترعيها بفضل جهودهم العظيمة، والتي استفادت منها البشرية إلى يومنا هذا. فمن ينسى «ريختر، وأرشميدس، والفارابي، وابن الهيثم، وأينشتاين، وأديسون، وفهرنهيت» وغيرهم.
واستطاع «مارتن لوثر كينج» أن يُغير وجه الولايات المتحدة الأمريكية بخطبته الشهيرة «عندي حلم»، وقضى بجهده وعزيمته وصبره على العنصرية واضطهاد السود.
و«جيفارا» كان الشخصية الرئيسة في الثورة الكوبية، ثم أصبحت صورته رمزًا في كل مكان وشارة عالمية ضمن الثقافة الشعبية. وقاد «مانديلا» لسنوات الثورة السلمية في جنوب إفريقيا؛ للقضاء على العنصرية والتقدم نحو دولة المساواة.
واستطاع «ستالين، وماركس، ولينين» أن ينشروا فكرتهم؛ حتى دانت بها، وليست دينا سماويًا، أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي والصين، كما تسللت إلى المشرق العربي، ولم تظهر فكرة انتشرت كما انتشرت الماركسية والشيوعية.
ويقف «هيوستن» في حدود عام 1830م أمام الكونجرس الأمريكي ويخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال، وكان قد نجح في تسكين ثائرة الهنود الحمر، وتوقيعهم اتفاقية مع الحكومة. فاستدعاه الرئيس الأمريكي، وقال له «تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولابد من ضمها، وأريدها منك». فقبل المهمة، وسافر إليها، وفتح بها مكتب محاماة، وانبهر به الناس لبلاغته وقوة لسانه، فلاثوا به، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم وغرس فيهم ضرورة الاستقلال عن المكسيك، وأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، ثم غرس معنى وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت طواعية بقناعات هيوستن، فجاء بعد سنوات بمفتاح تكساس إلى الرئيس الأمريكي؛ فخلدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة هيوستن، والتي هي الآن من أهم مدن أمريكا وعاصمة النفط فيها. صناعة الحياة للراشد.
وفعل «لورانس» ابن الثلج، وملك العرب غير المتوج، الأفاعيل وقطع الصحراوات على ظهر الإبل، وأنهك الجيش العثماني، وبسط النفوذ البريطاني على فلسطين، ومن يقرأ سيرته في أعمدة الحكمة السبعة يجد فيها العبرة.
ومؤسس سلسلة مطاعم «كنتاكي» الكولونيل «ساندرز» بدأ وفي جيبه 105 دولار فقط، وعمره 65 سنة – عمر التقاعد لمعظم الناس – سلسلة مطاعمه التي اجتاحت العالم بوسم «دجاج كنتاكي». حتى وصلت إلى أكثر من 92 دولة حول العالم، وقد قطع من العام 1952عام البداية، وحتى العام 1980عام وفاته، بنشاط وحيوية أكثر من 250000 ميل في السنة مسافرًا من بلد إلى بلد؛ ليتابع بنفسه إمبراطورية الدجاج.
ويتفوق «يحيى حمدان» سائق صهريج أردني، على نفسه وعلى ظروفه من فقر وحاجة، وهو الذي لم يكمل تعليمه، ويكتب روايته الثانية «الحقيبة ليست دبلوماسية». فذاع صيته، وانتشرت رواياته، وعمره فوق الأربعين.
واقتصرت على القليل، والقليل يدل على الكثير، والجرعة تدل على الغدير، والحفنة تدل على البيدق الكبير، والحر تكفيه الإشارة.
تقول الدكتورة «هبة رؤوف عزت» «إن الجهد المطلوب لنهضة الأمة ضخم، تتجدد التحديات وتدور الأحداث؛ ليستمر تفكيك مساحة الوعي لأسباب تتراوح بين الانشغال باستهلاك الأفكار والسلع أو هجرة الكوادر والعقول أو تنافس الفرقاء أو تفكك النسيج الاجتماعي..والمرحلة اليوم في ظل المستجدات ومجريات الأحداث العربية تحتاج إلى رؤية ثاقبة وصناعة ثقيلة للفكر، وعناية فائقة بإعادة صياغة خرائط العقل وتحصيل لموارد القوة بأنواعها».
فقط علينا أن نودع الراحة، ونهجر الكسل، ونخاصم اليأس، ونبادر إلى العمل والابداع والابتكار، لإخراج الأمة مما هي فيه، ونزرع الأمل في الغد، ونبشر بالمستقبل، ونجمع الشتات، ونضم الجهود إلى بعضها، والصفوف جنباً إلى جنب.
إن الغناء، والتدوين، والكتابة، والرسم، والأرشفة، والأرقام والاحصاءات، والتحليل، والصحافة، والتمثيل، والكاريكاتير، والندوات، ونشر الوعي، والفيس وتوتير، والقراءة، والشعر، والحوار؛ كلها ميادين للمقاومة والتغيير، ومجالات يستطيع الكثيرين أن يبدعوا فيها آحادًا ومجموعات.
ولمن يقول: فمن يبلغ صوتي، وينشر جهدي، ويُري أثري! أقول: لقد قالها إبراهيم ـ عليه السلام ـ قديمًا، حين أمره ربه بدعوة الناس لحج البيت الحرام، فقال: يا ر ب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال الله عز وجل: ناد، وعلينا البلاغ. ومن يومها وإلى يوم القيامة تتوافد الملايين إلي البيت العتيق؛ استجابة لنداء إبراهيم.
فاقتحم..أنت لها، وإنما عليك النداء، وعلى الله البلاغ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
اقتحم