في أعقاب الحرب العظمى “1939 – 1945″، انهارت سيطرة الأسد البريطاني وشاخت قواه، وبدأت امبراطوريته في التحلل والانفراط، وبدا للعالم أن الأسد أضحى عجوزا وبات عاجزا عن القتال، لذا كان لابد من تحرك يضمن عدم الانحطاط وملاقاة نفس مصير الإمبراطويات السابقة، والتي كسرتها بريطانيا فيما مضى، ولعل واقع ما حدث مع الإمبراطورية العثمانية والنمساوية ما يزال عالقا بالأذهان.

فقد كان تحطيم ألمانيا النازية آخر خدمة قدموها في مسعاها للمحافظة على التوازن العالمي، وأن هذا الجهد الأخير قد استنفذ الجوهر المادي لدور بريطانيا العالمي، إلا أن السياسيين البريطانيين أظهروا جرأة استثنائية عبر الإصرار على لعب دور مستدام في صياغة التوازن العالمي، وأدركوا أن “قوة النيران” بدأت تتراجع أمام “القوة الاقتصادية”، لذا سعوا لانتزاع “دور” لهم، عبر صياغة علاقة خاصة مع الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم.

الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هي القوة الحاسمة في تحقيق النصر إلى جانب بريطانيا في حربين اثنتين أشعلتا أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين. فالحسابات العقلانية الهادئة دعمت الروابط الوجدانية “العاطفية” حين قررت بريطانيا في اللحظة التي اقترن فيها النصر بالانحطاط النسبي، ربط سياساتها بأمريكا لا بأوروبا، وأكدت على أن المسألة تتجاوز مجرد التحالف، بمفهوم صاغها البريطانيون بأنفسهم دعوه بـ “العلاقة الخاصة”.

وبدت بريطانيا “تابعة” لسياسة الولايات المتحدة، ولكنها حافظت على هويتها، وذلك عبر زعماء بريطانيين ذوي حذق ومهارة صنعوا شبكة من التعاون والتشاور عبر المحيط الأطلسي حول الشؤون الدبلوماسية والاستراتيجية والاستخبارتية، فقد استعاض البريطانيون عن القوة بالنفوذ، مدركين أن الدبلوماسية التقليدية تحقق نفوذها عبر ثنائية الثواب والعقاب، لكن العلاقة الخاصة لاتملك أيا من الوسيلتين، وبدلا من ذلك أسست بريطانيا حقها في الاعتبار الخاص على الأداء، وعلى انضباط مستمر، انتقل بهدوء ودون ضجة من خلال عادات الألفة والحميمية المتنامية.

ومن أجل الاستمرارية في تلك العلاقة، رأت بريطانيا أن الإذعان لمطالب أمريكا يهوي بالعلاقة إلى مستوى من الاتكالية المربكة التي تضعف المعنويات، وتوصل لحالة سيئة يتعذر إصلاحها. كل هذا ساهم فيه البريطانيون من خلال الجمع بين الكرامة والأهلية والكفاءة من خلال حنكة سياسييهم، وجدية الجهد البريطاني العسكري في آن معا.

لعل البريطانيين أفلحوا في توصيف معنى ما من العلاقة الدبلوماسية مع الدولة الكبرى، وباتوا في مركز يخولهم من صناعة القرار الدولي، ولكن مصر فشلت في صياغة سياستها الدبلوماسية مع القطب الأوحد، وباتت “تابعا”، وأضحت القاهرة مجرد نقطة في سلسلة طويلة، وفقدت ما كان لها من أهمية خلال حقب سابقة.

“99 بالمئة من اللعبة بيد الأمريكان”، لعلها الجملة الأشهر التي تفوه بها الرئيس الراحل أنور السادات، أثناء إجرائه مباحثات السلام مع الكيان الصهيوني، برعاية أمريكية، وفق شروط تمليها الدولة الراعية لا الدولة التابعة، وهنا بدا ما يمكن تسميته “حقبة التبعية الأمريكية”. وفق هذا المفهوم صاغ الرؤساء المصريون دبلوماسيتهم، ورغم هذا أخد الدبلوماسيون المصريون في تردديد مصطلح “العلاقة الخاصة” مع الولايات المتحدة، دون تحديد أطر وملامح هذه العلاقة، ودون التبصر بمعاني المصطلح.

سارت العلاقات المصرية الأمريكية على نحو يرسي للإذعان، ويؤكد للتبعية، فقد بدت الولايات المتحدة هي صاحبة المن والفضل من خلال علاقة اقتصادية أسستها هيِ وفق مصالحها، فاشترطت على نفسها تقديم مساعدة مالية قدرها 3 مليار دولار، تناقصت الآن لتصل إلى 1,5 مليار دولار، على أن يكون نصفها “مساعدات عسكرية” لتتحكم على المدى الطويل في مصير معدات جيشك وطرق تدريبه.

إن ميزان التجارة بين البلدين في صالح الولايات المتحدة، فضلاً عن انتزاعها شروطا سحقت بها السيادة الوطنية أبرزها حق المرور في قناة السويس، والمعاملات التجارية التي تتم وفقا للدولار، وفرضت عليك شرط أن تستورد من إسرائيل ما قيمته 11,2% من مكونات الملابس الجاهزة، حتى يتم قبول منتجاتك في ساحات بضائعها في نيويورك.
رسم أنور السادات أطر “التبعية” وسار عليها، وأذعن الرئيس الأسبق حسني مبارك لها، ولم يرغب الرئيس السابق محمد مرسي في المقاومة، ولم يستطع الرئيس عبد الفتاح السيسي تغييرها – دون الأخذ في الاعتبار خطابات الزعماء الموجهة للجمهور – بدت العلاقة تبعية لا ندية، فلا وجود لتحالف وصار اصطلاح العلاقة الخاصة يفقد جوهره وقيمة وجوده.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد