لاقت مناظرة إسلام بحيري مع كل من الحبيب بن علي الجفري ود.أسامة الأزهري رواجًا غير مسبوق إلا في نهائيات الدوري الإسباني بين برشلونة وريال مدريد. وبنفس أسلوب مشجعي الكرة تراص كثير من المتحمسين للدين في انتظار القضاء على إسلام بحيري الجاهل، وبنظرة مشجعي الكرة لحدث كهذا، لا يمكن فهم مثل هذه الظاهرة المُركبة، بل وسيصدم الكثيرون حينما يروا أن البحيري يزداد صيتًا في الأيام المقبلة بعدما توهم البعض أنه “اتعلم عليه”.
بداية لا بد من فهم أن الحراك المجتمعي أعقد وأكثر تركيبًا من حصره في شخصيات، بل والتعامل مع الظاهرة وكأنها مخطط لهدم الدين واستئصال شأفته، فالتعامل مع مثل هذه الظواهر كمخططات مؤامرتية و”لعب على كبير” يحول دون الفهم الصحيح لها. ولهذا أرى أن رواج ما يقوله إسلام بحيري يعكس أنه يعبر عن حالة في النفوس، يعجز أو يجبن الكثير من الناس الإفصاح عنها، ويتأثر بها الشباب المتمرد على ما يراه سلطة دينية ممثلة في المشايخ وغيرهم. ولهذا وجد ما يقول البحيري تربة خصبة ليلقي فيها بذور ما يقول وينتشر انتشار النار في الهشيم كما يقال.
وبغض النظر عن المناظرة وما إن كان البحيري قد افتضح جهله في نظر معارضيه، فإن الإقبال على بضاعته سيزداد، لأنه يعكس حالة داخلية في نفوس كثير من الناس الآن. ولا أرى غضاضة في أن ما يروج له من أفكار تشكيكية هدامة تجد استحسانًا لأنه ببساطة كشف ما يجول في النفوس، وأزاح الستار عن قدر الدين في القلوب. فالبحيري لم يهدم الدين كما يدعي البعض ولكنه كشف عن مدى هشاشته في نفوس بعض مسلمي اليوم.
من يرى أن البحيري “اتعلم عليه” لأن د. أسامة الأزهري مثلًا أحرجه لما أكد أن كتاب الموطأ ليس له مقدمة، أو لأنه ظهر للبعض التمكن الأكاديمي للأزهري في حديثه عن هشام بن عروة أو عكرمة أو غيرهما من رواة الحديث، كما يتوهم من يظن أن برنامج الأزهري المزمع انطلاقه للرد على كل ما جاء من أطروحات فكرية في برنامج البحيري مثل قضية الإجماع الفقهي وزواج السيدة عائشة وغيرهما من القضايا الشائكة سيؤدي إلى وأد أباطيل البحيري وأفول ذكره.
فالقضية لها أبعاد مُركبة لا تنحصر في قوة طرح البحيري أو دحض ما يقوله في كلام علمي موثق، لأن رواج ما يقوله البحيري لا يعتمد في الأساس على حجية ما يقوله وقدرته على الإتيان بالأدلة قدر ما يعتمد على أنه يُسمع البعض ما كمن في صدورهم وظل رمادًا ينتظر بعض الرياح التي تحيله نارًا ملتهبة.
ولهذا أجد أن كثيرًا من حجج البحيري وغيره تكون في بعض الأحيان أكثر واقعية من حجج خصومهم لا لأنهم على حق ولكن لأنهم يرصدون الواقع ويكشفون تناقضه. ولأننا نعيش في واقع الأمر تجليات أفكار وفلسفات مادية ثم تغلف بغلاف الإسلام، بات ما يقال من حجج هؤلاء في بعض الأحيان أكثر منطقية لأنه يفضح الواقع ويظهره كما هو. فمثلًا لما يقال إن أكثر من نصف المحجبات قد ارتدوا الحجاب على سبيل القهر، أجد أن العبارة حقيقة وأن الحجاب في واقعنا ليس ظاهرة دينية قدر ما هو ظاهرة اجتماعية، ولذا تكون الحجة حقيقة لا بسبب أن الحجاب ليس فرضًا، ولكن تكتسب قوتها من مقدرتها على رصد الواقع الذي نعيشه.
وفي ظل هيمنة الدولة الإله على كل مقادير الأمور حتى المرجعية الدينية، تفرز هذه المنظومة – والتعميم مرفوض- مشايخ ليس لهم من الحق الذي يفحم الباطل ما يضاهي حجج الخصم المستسقاة من الواقع وقدرته على تجلية التناقض المستتر خلف ستار إسلامي هش وما يعكس هشاشة حقيقية للدين وتجلياته في حياتنا الحالية، وإن لم تتأثر بعض الشعائر كالحجاب ولكن باعثها الحقيقي في كثير من الحالات ليس الدين لله ولكن عوامل اجتماعية وضغط أسري وما غير ذلك من أسباب.
وفي ظني أن الرد العلمي الدقيق الموزون ليس هو مكمن المشكلة التي يعتقد المشايخ أنها الحل، لأن قبول مثل ما يقوله البحيري والشوباشي وغيرهما ليس منشأه الأساسي الاقتناع الفكري، فالحالة الوجدانية العامة معتبرة جدًا في هذا السياق. ولو كانت فرضية دحض الحجج صحيحة إذن لما عبد بنو إسرائيل العجل رغم أن بينهم نبيا الله موسى وهارون؟ كما أنهم شاهدوا من الأدلة اليقينية – كانشقاق البحر- ما لا يضاهي مجرد الدحض الفكري للحجج ومع هذا لم يمنعهم هذا من عبادة العجل نظرًا لكونهم قد عاشوا مدة طويلة في أحضان القهر والظلم مما أفسد الفطرة وجعلها قابلة للانتكاس.
ولذا لا أرى أن البحيري “اتعلم عليه” بل بالعكس فقد وثقت المناظرة كونه “باحثًا إسلاميًّا” – التي كانت تكتب على الشاشة أثناء حديثه– وما يقول عبارة عن طرح مختلف للدين عن الطرح التقليدي يقبل من يريد ويتركه من يريد ولهذا حتى وإن لم يوفق في بعض المسائل العلمية، فقد حقق من المكاسب ما لا يحصى. ولذلك أحسب أن الظاهرة البحيرية سيكتب لها رواجًا أكبر في الأيام المقبلة، بل وستتجلى في أناس آخرين كل يطرح أطروحات مختلفة على مستوى القضايا المطروحة متفقة في مضمونها التشكيكي الهدام – مثل ما يقوله الشوباشي في قضية الحجاب.
ولا أحسب أن المشايخ الرسميين للدولة سيقدرون على التعامل مع هذه القضية التي لا يملكون أدوات التصدي لها ألا وهي الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من خلفه والذي فقد مع حلول الدولة كمرجعية مطلقة، يأتي تابعًا لهذا المطلق وخادمًا له. ومع هذا لا أجد أن ما يحدث هدمًا للدين وثوابته قدر ما أرى أن أقدار الله كلها خير؛ فتجليه الحقيقة وسطوعها وفلترة الناس أفضل من تغطية طعام فاسد بغطاء جميل اللون. ولهذا لا يمكن رؤية أن مثل هذه الأطروحات الفاسدة هي السبب في تضليل الناس ولكنها في الحقيقة كشفت ما بداخل النفوس، وما ستؤول إليه من نتائج وعواقب قد يكون صادمًا للبعض ولكنه أشبه بعملية جراحية لاستخراج القيح.
والله من وراء القصد
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست