هناك ما يستحق الإشارة إليه في كتاب للدكتور الكويتي طارق السويدان (الأندلس.. التاريخ المصور)، وهو أطلس تاريخي من 520 صفحة يوّثق للأحداث والفتوحات والإمارات والأمراء بشبه الجزيرة الإيبيرية التي عُرفت في أدبيات الثقافة العربية بالأندلس. يمثل الكتاب تأريخًا للفترة من الإمارة الأموية إلى محاكم التفتيش مرورًا بعصر الطوائف وسقوط الإمارات واحدة تلو أخرى واستنجاد الشعراء الأندلسيين بالعرب والمغاربة فيما عرف بشعر الاستصراخ الأندلسي. وهو كتاب وافي في موضوعه، ومرفق بكمٍ من الصور التي تعيد ذاك التاريخ حيًا كأنه الآن، لكنه لا يعدو أنه جمع لمواد من مصادر مختلفة مثبتة في آخر الكتاب.
لكن إشارتنا هي أن التوثيق يتطلب نسب الشعر لقائليه، وقد خفضت قيمة هذا الكتاب الذي طبع ملونًا بتصميم أنيق جراء إهمال ذكر أسماء الشعراء رغم اقتباس مؤلف الكتاب للكثير من الشعر، ولمشاهير الشعراء وفحولهم. وهذه أول أبيات دلف بها إلى أطلسه وقد نسبها (لأحدهم)، وهي:
نزلت شطك بعد البين ولهانًا فذقت فيك من التبريح ألوانا
وسرت فيك غريبًا ضلّ سامره دارًا وشوقًا وأحبابًا وإخوانا
فلا اللسان لسان العرب نعرفه ولا الزمان كما كنا وما كانا
ولا الخمائل تشجينا بلابلها ولا النخيل سقاه الطلُّ يلقانا
ولا المساجد يسعى في مآذنها مع العشيّات صوت الله ريانّا
وهذه الأبيات ليست مما ينسب لأحدهم فشاعرها شاعر فحل، ورائد من رواد الشعر العربي في العصر الحديث، شغل موقعًا هامًا على مستوى إقليمي في ذلك الوقت وهو رئاسة وزراء السودان في فترة الديمقراطية الثانية. وألقى خطبة هامة في مجلس الأمم المتحدة بعد نكسة يونيو 67 بإجماع الدول العربية على تمثيله لها في القمة العربية التي عقدت في الخرطوم وعرفت بقمة اللاءات الثلاثة وتوجت بمصالحة تاريخية بين الملك فيصل بن عبد العزيز والزعيم جمال عبد الناصر بفضل رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب.
فهو علم على رأسه نار طبقت شهرته الآفاق.
هذا غير توليه لحقيبة الخارجية منذ 1957 مما مهّد له زيارة إسبانيا لحضور مؤتمر على أرضها فجاشت نفسه عند رؤيته لآثار الأندلسيين، فكتب هذه القصيدة التي نسبها السويدان لأحدهم.
وقد عنوّن ديوانه الثالث بعنوان هذه القصيدة (الفردوس المفقود) وأصدره عن دار العودة ببيروت عام 1969، وقدّم له عبد الرحمن الشرقاوي الأديب والمفكر والصحفي المصري المعروف، بقوله: (محمد أحمد محجوب، وجه مضيء في ظلمات المحنة الداجنة.. ولكني هنا أقدِّم للقراء رئيس وزراء السودان العزيز، ولا رجل الدولة الكبير الذي عرفه العالم كله في اللحظات الحالكة وجهًا عربيًا يشعُّ بالمحبة والإخاء، وقائدًا أفريقيًا عظيمًا.. فهو شاعر من جيل الروّاد الكبار الذين تفهّموا أسرار البلاغة العربية، فألقت إليهم بمفتاح هذه الأسرار… إنه من هذه البقعة القليلة الصالحة التي ورثت ما في البيان نصاعة وعمقًا وثراء وروعة). أما مراثي محمد أحمد محجوب فقد خلف آثارًا منها في رثاء رصفائه من الأدباء أمثال معاوية محمد نور وخليل فرح وعباس محمود العقاد.
وبجانب الشعر والسياسة فهو مؤلف ومهندس ومحامي وقاضي. والغريب أن د. السويدان يقدِّم سلسلة محاضرات عن الإدارة وإعداد القادة، فما كان له أن يغمط اسمًا لقيادي وزعيم بارز ومؤثر رفع علم دولته في يوم الاستقلال من قبضة المستعمر البريطاني بعد أن أطلق مقولته الشهيرة: (اليوم لا معارضة). فمثل هذا الاسم مثل ضوء الشمس لا يُغطى بغربال لأنه ليس اسمًا لمجرد شاعر، أو لخامل ذكر لا سيرة له، أو لعابر سبيل.. والأصل أن يُقال: كتب أحدهم عن محمد أحمد محجوب!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست