اتممت الإجراءات واستكملت الأوراق، كل شيء تمت تسويته كما طلبوا، ذهبت بأوراقي إلى منطقة التجنيد لأسمع السلاح الذي سأقضي به عامًا من عمري، وقد كان. تعرفت ببعض زملاء الجامعة الذين لم تتح لي الفرصة لمعرفتهم في أربعة أعوام سابقة فعرفنا بعضنا اليوم، أيحق لي التطيّر بهم ؟ اصطففنا أكثر من مرة للحصول على بعض الأختام، وفي انتظار الصول القادم من القاهرة خصيصًا لزمرة من الأعراف المنتظرين عدالة إلهية تحيلهم إما للمدنيّة وإما العسكرية.

جاء الصول بردائه الزيتي المعتاد، وعدد لنا فضائل سلاحنا، وحدد لنا المسموح واللا مسموح في مركز التدريب الذي ننتظر الترحيل إليه في الغد، ثم غاب قليلاً وجاء ليزف إلينا البشرى، حيث إن ترحيلنا تأجل ثلاثة أيام، وأنه نظرًا للأوضاع السياسية المتأزمة – كانت البلاد في أوج أزمة فض رابعة- سنرتحل إلى مركز التدريب بأنفسنا، حيث إنه قبلاً كان يرتحل المجندون بواسطة الجيش.

وحدد لنا موعدًا لا يجب التأخر عنه بأي حال من الأحوال ومهما حدث، وتوعدنا بأن من سيتأخر ولو دقائق سيسجن.
غادرت منطقة التجنيد فرِحًا بانتصار زائِف، وكأن تلك الأيام الثلاثة ستغير من الأمر شيئًا، أنفقت أيامي الثلاثة الأخيرة في اغتِراف بعض من المتع التي كنت متأكدًا أني سأُحرم منها في غضون أيام؛ فقرأت كثيرًا، ولم أنس أن اغترِف فيروز ومنير حتى أُبقِي في الأذن ما تأنس بِه، وتقاوِم الصفا والانتباه، تخليت كراهة عن لحيتي الكثة وشعري النافِر من بعضه البعض.

مرت الأيام كعادة الأيام وجاءت الليلة المنتظرة، الليلة الأخيرة من أكتوبر، جهزت مستلزماتي الشخصية وراجعتها أكثر من مرة وودعت والدي وإخوتي ورحلت في تمام الثانية صباحًا كي أصل للإسكندرية في تمام السابعة والنصف صباحًا.

كانت الليلة السيئة للصباح الأسوأ، كانت الرحلة الأكثر جلبًا للحزن والكآبة والخِواء، لم تكن هناك مواصلات من بيتي لسيارات الإسكندرية التي كنت في ريبة من إمكانية وجودها في هذا الوقت المتأخر، فقطعت المسافة ماشيًا أطوي طرق مدينتي بقدميّ، وأتذكر أيامًا كنت أسلك الطريق عينُه وأتساءل حين أعود كيف سأكون، وألوم نفسي على تلك الهشاشة فيها، وأحثها على الجلد والصبر، فما أنا الأول ولست الأخير، فلِم كل تلك الميلودراما؟

وأربُتْ على قلبي متجاهلاً إشاراته التي تشي بحزن يلوح في الأفق، أكملت سيري مرتجفًا، لا أدري هل ذلك من تأثير البرودة التي احتميت منها بأجود الأصواف، أم أنه الفراغ من حولي يخيفني حد الارتعاد؟ لم أكن أبدًا الشخص الذي يحتمي بالناس ويأنس بهم، لكن الليلة اعترف أني بحاجة لصخبهم وتضاحكهم وتشاجرهم، وصلت إلى موقف الإسكندرية فإذا به -على غير ظني- يوم الحشر.

العربات متراصة وحولها الشباب يتوافدون من كل فج عميق، تعثرت في الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في منطقة التجنيد، كان كل منهم محاطًا بعائلته مسلحًا بالأكلات المختلفة، لكي يظل الولد للحظة الأخيرة متشبثًا بأكل والدته، قبل أن تفترسه الجراية والعدس.

ركبنا السيارة محاطين بدعوات الأهالي بالسلامة في الطريق والسلامة هناك، وأوصونا ببعضنا البعض، انكمشت في السيارة بجانب آخر شباك، ولم أطل النظر على المدينة الراحلة، فقط رفعت يدي مودِعًا دون أن أنظُر لها, نظرت إلى رفاق السيارة، وبالتأكيد كان الجميع يشعُر بما أشعُر، لكن طريقة المُجابهة تختلِف باختلاف الفِكر، مثلاً هناك من كان منشغلاً بكيف سيتدبر أموره هناك ويكتسب صداقات الجميع، وآخر يفكر في عائلته كيف سيتواصل معهم حين يصل ومتى سيعود، وهناك من أدرك باكرًا أنه متجه نحو ترانزيت بين دراسته وحياته العملية، وأنها مجرد سنة ولن يخرج منها خاسرًا.

أما أنا فكنت مشوشًا والعناصر الماثِلة أمامي أكثر من قدرتي على الاستيعاب، فاستسلمت لنعاس خفيف ظنًا أنه قد يبرئني من اغترابي، لكن داخله حلمت أني ما زلت ببيتي، وأن كل ما أفكر فيه كابوس يتبخر حين أستيقِظ، وحين استيقظت وجدت كل شيء كما كان، زملائي يلهون أنفسهم بالحكي، وأنا كما أنا حليق الرأس واللحية، تجاورني حقيبتي، ومتجه بعد سويعات إلى ما لم أحب، وما لم أرغب.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد