يمكن القول إن مفهوم الدبلوماسية العامة أو الشعبية استخدمه لأول مرة عام 1965، إدموند غولين عميد كلية الحقوق والدبلوماسية في جامعة تافتس الأمريكية، إذ أنشئ مركز للتعريف بالدبلوماسية العامة في هذه الجامعة، كما أصدر أول كتيب للتعريف بها في تلك الفترة، والذي تضمن أهم الأفكار والمعلومات التي يحتويها مفهوم الدبلوماسية العامة.
وتجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية العامة تعمد إلى التعامل مع الآثار المترتبة من المواقف العامة حول السياسة الخارجية وتنفيذها، كما إنها تسعى إلى خلق رأي عام في الدول الأخرى حول أبعاد العلاقات الدولية وآثارها، خارج نطاق عمل الدبلوماسية التقليدية، والتفاعل مع الجماعات غير الرسمية خارج إطار الدولة، والتفاعل مع تقارير السياسات الخارجية وتأثيرها، والاتصالات التجارية والاقتصادية خارج الأطر الرسمية، فضلًا عن عملية التواصل بين الثقافات والشعوب، بل يمكن القول أيضًا بأن الدبلوماسية العامة هي الأداة التي من خلالها يمكن توظيف عناصر القوة الناعمة بالصورة الصحيحة والمؤثرة.
وعلى الرغم من أن الهدف النهائي للدبلوماسية العامة هو الهدف نفسه الذي تسعى إليه الدبلوماسية العامة التقليدية، فإنه يمكن القول بأن الفارق بينهما يقوم على أساس التغير في لغة الخطاب ونوع الأداة المستخدمة، فإذا كانت الدبلوماسية التقليدية تسوق نفسها من خلال البرامج الإذاعية، والهاتف الثابت، والصحف والمجلات، فإن الدبلوماسية العامة في الوقت الحاضر تجاوزت هذا الطابع التقليدي، من خلال التركيز على القيم السياسية، والمناسبات الوطنية، والثقافة، والدين، واللغة، وحقوق الإنسان وغيرها، وبالطريقة التي جعلت منها أكثر فاعلية على مستوى التأثير والتغير المأمول منها.
وعندما يتعلق الأمر بكندا، فهي دولة حالها حال دول العالم الأخرى، ذهبت باتجاه صياغة تقاليد سياسية ودبلوماسية خاصة بها، تميزها عن بقية دول العالم، وهو ما أعطى لها سمة فارقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الوقت الحاضر، فقد اختطت لنفسها سياسة خارجية تقوم على أساس المدرسة الليبرالية المثالية، الداعية إلى نبذ العنف والإرهاب والحروب، وجعل العلاقات الدولية تقوم على أساس من التعاون والسلام، بل لم تكتف كندا بذلك، وإنما عملت على وضع أسس عملية لهذه الشعارات السياسية، من خلال اعتمادها دبلوماسية حل الصراعات الدولية، عن طريق لعب دور الوسيط في الكثير منها، ففي الفترة من العام 1945 وحتى العام 1957، شهدت السياسة الخارجية الكندية تطورًا كبيرًا في هذا المجال، واستمرت على هذا الحال حتى بعد التسعينات من القرن الماضي، فعندما كان لويد أكسورثي وزيرًا للخارجية، لعب دورًا كبيرًا في توجيه الرأي العام العالمي نحو قضايا التنمية والتحديث، بدلًا من الصراعات والحروب، كما أن الدور الناعم الذي يقوم به رئيس الوزراء الحالي جوستين ترودو، يعد أبرز مثال على مدى التطور الكبير الذي تشهده السياسة الخارجية الكندية بالوقت الحاضر.
وعادة ما تعكس السياسة الخارجية مجموعة من الأفضليات الوطنية والقومية، إلا أنها تظل تدور في إطار الحقائق السياسية والاقتصادية، هذا إلى جانب مجموعة النظم القيمية والفكرية التي تسيطر على عقول المواطنين وأذهانهم، فالقيم السياسية الكندية تأثرت كثيرًا بالدور الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية في تشكيل الحياة الكندية، هذا إلى جانب أنها ظلت متأثرة بارتدادات السياسة الأمريكية، سواء أكان ذلك بحكم القرب الجغرافي، أم بحكم ارتباطها غير المباشر بالسياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي فإن جنوح كندا نحو بناء دبلوماسية عامة وقوة ناعمة خاصة بها، جاء من أجل الوصول إلى بناء نموذج سياسي خاص بها، ويميزها بالوقت نفسه عن الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، ونتيجة لسيطرة القوة الصلبة على مفردات القوة الأمريكية وحلفائها، وفي ظل إعلان كندا عدم اشتراكها بالحرب على العراق، أخذ رصيدها السياسي في تصاعد كبير، خصوصًا أن أغلب الأمريكيين بدأوا ينظرون إليها على أنها قوة مهمة في مجال حفظ السلام، جعل بالمقابل الإدارة الأمريكية تعيد حساباتها السياسية حيال كندا أيضًا، هذا إلى جانب نجاح كندا في إيجاد حل للمشاكل الداخلية، سواء على مستوى الاقتصاد أو الوحدة الوطنية، فضلًا عن إعطاء أهمية أكبر لاستراتيجية العلامة التجارية «صنع في كندا»، وذلك من أجل الولوج في ساحات عالمية أخرى خارج إطار القارة الأمريكية.
عملت كندا خلال السنوات الماضية على تقديم الكثير من المساعدات الإنسانية والإغاثية في مجال دبلوماسيتها العامة، ففي العام 2004 مثلًا قدمت كندا 3.5 مليار دولار كندي مساعدات إنسانية لأفغانستان، كما أنها لم تقصر دعمها على البلدان النامية، بل إنها في بعض الأحيان تجاوزت الخطوط الحمراء فيما يتعلق بسيادتها الوطنية، ففي العام 2008، احتفلت كندا مع فرنسا بالذكرى السنوية الأربعين لمدينة كيوبك ذي الأغلبية الفرنسية.
إن الاختلاف في هذه الدبلوماسية العامة المتبادلة هو الحاجة إلى مزيد من الدبلوماسية العامة التعاونية من قبل اثنين «أو أكثر» من البلدان المتشابهة التفكير في بلد ثالث، فعلى سبيل المثال، ليس من المنطقي أن تنخرط البلدان المانحة في دولة فاشلة في الدبلوماسية العامة التنافسية، لأن هذا يشير إلى ازدواجية الجهود والرسائل المتناقضة، وتفيد وسائط الإعلام الدولية بانتظام بعدم تنسيق جهود المانحين في الاستجابة للكوارث الطبيعية، وإعادة بناء الدول الفاشلة، وبعض هذه الأمور لا مفر منه، إذ إن البيروقراطيات الوطنية تحشد لإرسال المعونة بأسرع ما يمكن، ومع ذلك، سيكون هناك نزوة متميزة للسياسة الوطنية التي يجري الاضطلاع بها في هذه الجهود الدولية لإعادة الإعمار، إذا سعت الدول المانحة إلى زرع الأعلام الوطنية على تبرعاتهم ومشاريع المعونة الخاصة بهم، وبالتالي دبلوماسياتهم العامة الوطنية، من أجل إثبات أن أموال دافعي الضرائب تنفق جيدًا، وهذا لا يعني أن التقسيم الدولي للعمل الذي يقوم فيه بلد ما، على سبيل المثال، بتدريب المنظمات غير الحكومية المحلية على كيفية رصد انتهاكات حقوق الإنسان، وبلد آخر يساعد على بناء نظام إعلامي مستقل، يؤدي إلى نتائج عكسية، ومع ذلك، هناك حالات يجب أن تتساءل فيها الحكومة المضيفة الهشة، التي تعاني من حركات التمرد وعدم الاستقرار، لماذا يبدو أن الحاجة إلى إبراز البلدان المانحة تبدو في بعض الأحيان محاولة منسقة للتواصل والتوزيع لمواطنيها، ومن المؤكد أن الحاجة إلى مزيد من الدبلوماسية العامة التعاونية في بلدان ثالثة ستتوسع، حيث تصبح الصراعات المتعلقة بالهوية المصدر السائد للصراع الدولي.[1]
إن الحاجة لبناء دبلوماسية عامة وقوة ناعمة منظمة وفعالة ودقيقة، أصبحت ضرورية جدًا، خصوصًا أنهما يمثلان قوة مؤثرة وحاسمة في السياسة الخارجية لأية دولة، فاليوم لم يعد النظام الدولي يقوم على الأسس القديمة نفسها التي قامت عليها العلاقات بين الدول، بل إنه أصبح لشبكات التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية والتكنولوجية، تأثير كبير في تقريب المسافات بين الشعوب والدول، وفيما يتعلق بكندا، فيمكن القول إن الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والقدرة على تشكيل نظام دولي متعدد الأطراف حارج إطار الهيمنة الأمريكية، والاضطلاع بدور فاعل في مجال حقوق الإنسان خصوصًا في موضوع اللاجئين السوريين والعراقيين وغيرهم مؤخرًا، تمثل أولويات تسعى إلى تحقيقها دبلوماسيتها العامة في الوقت الحاضر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست