حياة كالتي نعيشها اليوم لا تؤخذ على محمل الجد والأبدية, واقع مرير لا يغري بالحياة ولا يحرّض على البقاء, قتلي بالآلاف كل يوم ولا ندري مَن القاتل ولماذا قُتِلوا؟, أصبحنا نروج بضاعتنا بالحزن والعنف, “شاهد الفيديو الذي أبكي الملايين”, “افتح رابط الإعلان الذي حطم الأرقام القياسية”, “تابع التقرير الذي أثار الجدل وقتل صاحبه” إلى آخر هذه العناوين التي أصبحت حاضرة بقوة في عالمنا الافتراضي.

لكن, ثمة تفاصيل صغيره وسط هذا الركام يمكنها أن تصنع يومك وتجعل لحياتك معنى, إذا انتبهت لها واحتفيت بوجودها, لكن ليس كل عين ترى كما قال صديقي جلال الدين الرومي, ثمة جمال يمكنه أن يسكن وجه طفل يقضم قلبك كلما قال “بابا” , ويسعك أن تقرأه في عين والديك حين يكونوا في تمام الرضا عنك , أوتلمحه في تجاعيد وجه عجوز انحني ضهره لكنه مازال مبتسماً وهو يدعوا لك.

لا يمكن أن تكون ممتلئًا بالفجيعة حد الرغبة في الانتقام دائمًا, ولا يجب أن يكون إرثنا كله سياسيًا, السياسة جافة حادة بلا روح, لا تعترف بالعواطف, ومن سيأتي بعدنا بحاجة لموروث ثقافي واجتماعي أيضًا, أعلم أن ثمة أوجاع في القلب لا يمكن حسمها إلا بالموت, وثمة مظالم لا يمكننا غفرانها كما الدم تمامًا, لكن الحياة لن تحتمل خطوتك وأنت مسكون بكل هذا, تخفف من عناء هذا الشعور الذي يجعلك تكبر كل يوم مقدار سنة, ابحث عن شيء يبرر معاناتك كي تثبت لله أنك جدير بهذه الحياة, بهذه التجربة التي منحها الله لك, عِش محتسبًا ستصير حياتك أوسع وأرحب.

حين أصدرت المغنية الفرنسية “أنديلا” ” ” Adila Sidraia ألبومها الشهير” Mini World ” كان به أغنية عنوانها “Run Run” “اركض اركض” استوقفني بعض كلماتها التي تقول فيها “التيار يكسرنا لبرهة, لا تجعل نفسك تذبل” وكم هي ملهمة وحقيقية هذه السبع كلمات, فما أسوأ أن تكون مسخًا, كتمثال تُرِك سهوًا بعد حرب ضارية مات الجميع فيها, أن تتحول إلى جزء بليد كآلة قديمة، تتكلف حركاتك وتتصنع أداءك كي تبدو على غير ما أنت عليه, تتحرك بمعزل عن إرادتك وبعكس رغباتك, لتدرك متأخرًا أنك وإزاء الحياة بوصفها تجربتك الخاصة لست موجودًا, ولا تتمتع بأي ثقل ذاتي يفصح عنك.

لا يمكنني إقناعك بحياتي لأنها تجربتي الشخصية وفكرتي عنها هي ما جعلتها كذلك, فأنا لا أخص أحدًا سواي فلست مرجعًا ولا أسعى لجمع المتابعين خلفي كما البط, هذه ورطة الإنسان الناقص, لكنني أستطيع أن أؤكد لك أن السعادة ليست هي المغزى من وجودنا في هذه الحياة, فالأصل في الإنسان أن يكابد شيئًا ما, أن يقاوم أن يتألم، إننا لسنا موجودين هنا لنثبت للآخرين كم نحن أقوياء أشدّاء أولو عزم, إننا موجودين هنا لنشعر, لتصنعنا أحاسيسنا مهما كانت حزينة ومزرية, لنعبر عنها كي لا نموت بجرعة صمت زائده, لنحتفي بعاطفتنا ولا نترك السلطة كلها للعقل كي يحكم تصرفاتنا وردود أفعالنا, فالجنون أحيانًا عين العقل.

لذلك؛ آمِن بذاتك, ابحث عمّا يلهمك, يغذي روحك, يثير شغفك, كن متوثب النفس, تخلّص من خوفك وما يقيّدك، لا أقول تحول إلى شخص آخر أكثر بلادة وبلاهة، لكن ابقَ إنسانـًا ثائرًا جميلاً، جرّب ولو مرة أن تختطف الحياة، أن ترغمها على المجيء إليك كي لا تفوتك, إن ندمًا سينتج عن ذلك لا يمكنك غفرانه لنفسك.

كل إنسانٍ منّا مدفوعًا بين قوتين تحكمان هويته وتصرفه وماهية وجوده هما “عاطفته وعقله” إنهما رُكنان لا يُمكن تعطيلهما عند أي إنسان مهما كان سلوكه ولا يجب أن نسمح لأحد بفرض الوصاية عليهما، فالنضج لا يتعارض أبدًا مع العاطفة بل لا يكاد ينفك عنها، لكنها تنضج هي بدورها تُصبح انتقائية وعالية الحسّ والانتباه والوعي، تصبح مرنه وقابلة لقبول الجمال مهما كان غريبًا ومُتعارضًا مع ما تؤمن به من تصورات وأفكار, فالجمال كالحكمة أنى وجدته فعليك الاحتفاء به، والعاطفة دائمًا موجوده, ربما تتحول في اهتماماتها فتُصبح عاطفة إبداعية متجددة, تذهب بك لأعمق ما في الإرث الإنساني من عبقرية وتفرد وفن، ولا أحد يقيس النُضج بالحياد مع العاطفة سوى جاهل، فالإنسان بطبعه كائن مُتطرف، والنُضج بحد ذاته تطرف ما.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد