“تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة”

هذا هو حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأمته الذي شرح فيه المراحل التي ستمر بها الدولة الإسلامية، هذه هي بشارته لهم بعودة الخلافة على منهاجه العظيم يوم ما، لتنتهي – ربما – حياة هذه الأمة في رحاب خلافة منهاج النبوة تماما كما بدأت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

لكن هذا الحديث لم يكن يوما مجرد حديث مثل آلاف الأحاديث التي رواها الصحابة عن الرسول، فقد صار منذ سقطت الخلافة وبدأت دولة الخلافة محورا أساسيا وركنا جوهريا في نقاشات الإسلاميين وأدبياتهم وطموحاتهم بشأن الخلافة وعودتها، بل إنه تخطى ذلك وكان على مر العصور حاضرا نصب أعين خلفاء ما بعد دولة المدينة عسى أن يكون أحدهم هو باعث دولة منهاج النبوة مرة أخرى، فهذا هو عمر بن عبد العزيز يسر حين يرسل له حذيفة بن اليمان – كما قيل – مبشرا إياه بأنه ربما هو محيي خلافة منهاج النبوة في إشارة لاهتمام الخلفاء حتى منذ عهد الأمويين بهذه البشارة ورغبتهم في تحقيقها بأنفسهم.

إذن هذا الحديث – ضعيف السند بعد فقرته الثالثة – كان ولايزال هو حجر الزاوية في كل النداءات التي ترددت طوال الإحدى وتسعين عاما المنقضية منذ سقط بنو عثمان، دائما ما يتردد كلما استهل النقاش عن عودة الخلافة وحتمية هذه العودة، لكن مرددوه تجاهلوا العديد من النقاط التي ربما لو أعاروها الاهتمام الكافي لتغيرت خارطتهم المستقبلية كلية – لو كان هناك خارطة مستقبلية.

أولى هذه النقاط هي التعارض الواضح بين رغبتهم الشديدة في تحقيق خلافة منهاج النبوة وفي نفس الوقت مدحهم المتواصل للدول الإسلامية التي قامت بعد انتهاء دولة المدينة وحتى سقوط دولة إسطنبول، تلك الدول التي هي إما دول جائرة، إذا ما فُسر حديث الرسول تفسيرا مفاده أن خلافتا منهاج النبوة الأولى والآخرة هما الخلافتان الصحيحتان الوحيدتان، وإما دول جيدة فلا داع هنا للإصرار على السعي الحثيث لتحقيق خلافة منهاج النبوة وإنما يجب العمل على إعادة إحياء الخلافة – أي خلافة – ومحاكاة أي من تجارب الحكم السابقة أموية كانت أو عباسية أو عثمانية طالما كان الهدف الرئيسي لذلك إعادة توحيد المسلمين ولم شملهم.

قد يتساءل البعض هنا، ولماذا لا نعمل على الوصول لخلافة منهاج النبوة طالما هي الأفضل حتى ولو كان غيرها حسنا؟ الإجابة تكمن في النقطة الثانية وهي تفسير الكثيرين سكوت الرسول عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث بأن هذه الخلافة هي خلافة آخر الزمان، خلافة سيدنا عيسى أو المهدي المنتظر. لهذا تظهر هنا معضلة جديدة، فهل نحن نسعى إلى تحقيق وحدة إسلامية وحكم شرعي أم نسعى للوصول إلى نهاية الزمان؟ هل غرض البشارة أن نسعى لتحقيقها أم فقط لنعلم أنها آتية؟ هل هي بشارة أم قبس من المستقبل الآتي لا محالة؟

هل كان حديث الرسول عن الملك الجبري رادعا لنا؟ هل حاول الأمويون تجنب إنهاء خلافة منهاج النبوة الأولى وتأسيس الملك العضوض؟ هل لنا أن نسعى في تحقيق خلافة منهاج النبوة أم أننا يجب أن نجتهد لصبغ أي نظام حكم وحدوي بالصبغة الإسلامية حتى وإن كان ملك عضوضا؟

ربما يبدو هذا الطرح صادما إلى حد ما، فمن ذا الذي لا يرغب في بعث خلافة الراشدين ومنهجهم النبوي الشريف، لكن نظرة سريعة إلى ما قدمه الأمويون للإسلام من فتوحات وتوسعات وأنظمة إدارية أرسيت في عهدهم يجعلنا نتفهم قليلا كيف كانت دولة المدينة دولة مرحلية هامة في التاريخ الإسلامي وجب أن نستهل بها بداية عهد الدول الإسلامية، تماما كما وجب بعدها بفترة قصيرة أن تنتهي ليحل محلها دولة أقوى وإن كانت أبعد قليلا عن المنهج النبوي طالما حافظت على السمت الشرعي الإسلامي إلى حد كبير.

نظرة أخرى سريعة على عمر دولة بغداد الأقل تمسكا بنهج الراشدين والأبعد عن رشاد الأمويين تجعلنا نعلم أيضا أن نظام الخلافة الوراثي التي تداولته دولة بغداد استطاع أن يصمد خمسة قرون في وجه التاريخ بينما لم تصمد دولة الراشدين أكثر من ثلاثين عاما. هكذا لم تكن دولة بغداد على ما بها من أخطاء وتجاوزات بهذا القدر من السوء الذي ينفرنا من تجربة الخلافة كما يردد البعض الآن حتى وإن كانت أقل الدول الإسلامية نجاحا إذا ما قورنت بمثيلاتها الدمشقية والتركية والقاهرية.

بل لقد كانت على هذا العوار الذي اتسمت به من أكثر الأمثلة الصالحة للتطبيق في يومنا هذا لكونها أول دولة إسلامية كونفيدرالية في التاريخ، دولة يدين فيها يوسف بن تاشفين المرابطي في الأندلس ومحمود الغزنوي في الهند وأرطغرل السلجوقي بالولاء للخليفة العباسي دون أن يكون لهذا الخليفة دور في فتوحاتهم أو يكون له سيطرة فعلية عليهم تجبرهم على هذا الولاء.

لذلك ، وبدراسة أسباب سقوط دولة بغداد العباسية يبدو جليا أن سقوطها كان مميزا عن غيره، فهذه الدولة لم تسقط على أيدي دولة مسلمة أخرى تنازعها الملك وإنما جاء هذا السقوط على أيدي التتار غير المسلمين، ذلك السقوط الذي بدا أن سببه ربما عسكري أو ديني لكنه لم يكن سببا سياسيا أو اجتماعيا، بمعنى آخر لو كان عباسيو بغداد أقوى عسكريا وأكثر التزاما دينيا لربما كتب الله لدولتهم الحياة بضعة قرونا أخرى، بل إن ضعفهم لم يكن مبررا كافيا لمماليك مصر أن ينحوهم جانبا ويبحثوا عن سلالة أخرى تتوارث لقب الخليفة وظلت دولتهم القاهرية – الشكلية – الجديدة على قيد الحياة ثلاثة قرون أخرى لتعيش الدولة العباسية ثمانمائة سنة كاملة حاملة لقب الخلافة.

المثال الآخر الداعي للتأمل هو دولة العثمانيين في إسطنبول، تلك الدولة التي قامت على أنقاض دولة القاهرة ومماليكها وعباسييها، تلك الدولة التي عاشت أربعة قرون تحكم العالم الإسلامي التي ترامت أطرافه لتشمل مدنا أوروبية وآسيوية وأفريقية قسمت إداريا إلى أيالات وسناجق وغيرها من التقسيمات الإدارية، هذه الدولة أيضا كان لها باع في التاريخ الإسلامي يجعل من تجربتها نورا يجب الاهتداء به في دولة الخلافة القادمة.

فتجربة السلطان عبد الحميد الثاني كمثال لم تكن بهذا السوء حين مُنحت الولايات العثمانية حق التمثيل في مجلس المبعوثان (مجلس النواب) وتم العمل بالمشروطية (الدستور)، فقط كانت التجربة تنقصها بعض الأشياء حتى تحقق نجاحا ربما أطال عمر الدولة العثمانية ومنع سقوطها لاحقا، كذلك كان للظروف السياسية العالمية دخل كبير في فشل التجربة وانتهائها بعزل عبد الحميد ثم التخلص من دولته كاملة بعدها ببضعة عشر عاما فالاختلافات الدينية والعرقية إلى جانب ضعف الدولة العثمانية حينها واستغلال القوى العالمية (بريطانيا وفرنسا وروسيا) لذلك كل هذا كان سببا مباشرا في ضياع فرصة ذهبية لتحويل الخلافة الإسلامية إلى منهج جديد راسخ يحاكي التجارب السياسية الأوروبية الحديثة ويقف لها ندا بل ويتفوق عليها، منهج يواكب التطورات الزمنية التي حلت بالعالم كجزء حتمي من عجلة التاريخ.

فلو كان العثمانيون قادرين على صنع كيان يحاكي جمعية الاتحاد والترقي، ربما لكانت سنة انتخاب خليفة المسلمين عن طريق البرلمان – كما حدث في نوفمبر 1922 – ربما كانت هذه السنة قائمة حتى يومنا هذا يتداول بها الخلفاء العثمانيون – وربما غير العثمانيين لاحقا – السلطة السياسية في دولة فيدرالية كدولة دمشق وإسطنبول أو كونفيدرالية كدولة بغداد.

لذلك – وبعيدا عن الطموحات المثالية – تبقى فكرة الخلافة وتاريخها ذات قيمة بالغة، تبقى بالرغم مما شابها من أخطاء في التطبيق وعلق بها من هفوات رصيدا تاريخيا هاما في رحلة الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، تظل تجربة حضارية وإنسانية طاغية الحضور وعظيمة المحتوى. لا يلوثها أبدا ظلم خليفة أو فساد آخر، ولا يعيبها صراع على سلطة أو سوء استغلال لها. فكل التجارب التاريخية بل والمعاصرة شابتها بالضرورة أخطاء – ربما تفوق ما شاب تجربتنا – لكنها لم تطعن في سلامة الفكرة أو نبل الهدف.
لكن، وعلى صعيد آخر، يبقى الإنجاز الأبرز في هذه الرحلة المتواصلة والمشوار الطويل منذ بويع الصديق في السقيفة وحتى رحل عبد المجيد هو الحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية وهويتها، إنجاز يفوق كل الإنجازات التي ربما لأتيح لنا تحقيقها لو انضممنا إلى ركب “أوروبا عصر النهضة”، إنجاز يتضاءل بجانبه رصيد الخلافة من أخطاء بل حتى كوارث أحيانا. ظهر هذا جليا حين فقدنا هذا الكيان بعدما اجتيحت بغداد فشعر المسلمون حينها بالضياع، ظهر ذلك حين سقطت إسطنبول وتحولت الدولة العثمانية إلى مصر وسوريا والعراق فضاعت القاهرة وماتت دمشق وسُبيت بغداد.

لقد كان مشوار الخلافة حدثا إنسانيا بشريا له ما له وعليه ما عليه، لكن أكثر تداعياته سوءا هي ما حل بنا بعد زوال هذه التجربة وانتهائها، ليس فقط ما اعترى المسلمين عامة والعرب خاصة من فرقة وتشتت وإنما ما ألم بمفكريهم من قصور في الرؤية ومحدودية في التفكير من أجل عودة دولة الخلافة. هذه المحدودية التي قصرت كل طموحاتها في فكرة “دولة البشارة”، بل حتى لقد قصرته فقط على البشارة دون الاهتمام بالدولة نفسها، ذلك الكيان الذي أيا كانت خصائصه فهو كيان جامع مرة أخرى لأكثر من مليار مسلم على وجه الأرض.

كان الإلحاح على لفظ خليفة أكثر أهمية من التأسيس لهذه الخلافة. صارت الفكرة نفسها ضبابية في عقول الكثيرين سواء من نادى بعودة الخلافة أو من عارضها فلا ذاك يعلم ما يريده من الخلافة ولا هذا يعلم ما يخيفه من عودتها. لقد جنح الجميع إلى تفسير حديث رسول الله بجزءه ضعيف السند آملين في أن يجدوا في ذلك إما مسكنا لهم يخفف عنهم وقع صدمة فقدان الخلافة ويعطيهم أملا براقا في عودتها بصورتها المثلى دون حتى أن يبذلوا الجهد المطلوب لذلك، وإما أن يجدوا فيه معينا لهم على هدم الفكرة من أساسها متعللين بأن الأمر إنما هو بشارة لآخر الزمان وأن خلافة منهاج النبوة والتي لم تدم من قبل إلا ثلاثين عاما ليست شفيعا لمن ينادوا بعودتها الآن إذا ما قورنت بثلاثة عشر قرنا أخرى عاشتها دول جائرة – على حد قولهم – ليس فيها من منهج الرسول شيئا.

هذان التفسيران اللذان تجاهلا الجزء الأهم في حديث رسول الله حين قال “تكون النبوة (فيكم)”، هكذا تغاضى الكل عن هذا الضمير الذي ربطنا معا في وحدة أبدية منذ عهد النبوة حتى آخر الزمان وتمسكوا بتفسيراتهم المختلفة والمختلة عن أنظمة الحكم فأبوا أن يعملوا من أجل عودة دولة الخلافة الإسلامية. أبوا أن يستكملوا هذا المشوار المدهش واكتفوا إما بالبقاء تحت سلطة دولة الخلاف وإما بانتظار دولة البشارة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد