بحَسْب الدَّاروينيَّة فإن تَطوُّر الكائنات مِن البَسيطة إلى الأكثر تعقيدًا قد ترك وراءه أشكالاً اِنْتِقاليَّة تُقدَّر بالملايين، أو هي – على أقل تقدير – أكبر بكثير مِن أعداد الكائنات الموجودة الآن، فكُل كائن قد سبقه إلى الوُجود أشكال اِنْتِقاليَّة تُظهِر مَراحِل التَّطوُّر الَّتي مَرَّ بها.
هذه المراحل تُمثِّل تَغييرات دَقيقة، لكنها بفعل الفَتَرات الزَّمنيَّة الطَّويلة؛ المُقدَّرة بالملايين، قد أحدثت ما يُمكن وصفه بتَطوُّر كائن عن كائن آخر. فمَثَلاً تَطوُّر الدِّيناصورات إلى طُيور يقتضي وُجود حَلَقات اِنْتِقاليَّة حامِلة لصِفات مُميزة للدِّيناصورات والطُّيور معًا. وإذا صَحَّ ذلك فإن السِّجل الحَفري لا بُد أن يحوي أعدادًا لا تُحصى مِن تلك الحلقات.
يَقول دارون: “وأخيرًا، فبالنَّظَر إلى مَجموع الزَّمَن وليس لأي زَمَن واحِد، وإذا كانت نَظَريَّتي صَحيحة، فإنَّه مِن المُحتِّم أنَّه كانت توجد هُناك أعداد لا حصر لها مِن الضُّروب المُتوسِّطة، تربط فيما بين جَميع الأنواع التَّابِعة لنفس المَجموعة، ولكن عَمَليَّة الاِنْتِقاء الطَّبيعي ذاتها تميل بشكل ثابِت،
كما سَبق التَّنويه عن ذلك في أحوال كثيرة، إلى إبادة الأشكال الأبويَّة والحَلَقات الوَسيطة. وبالتَّالي فإن الدَّليل على وُجودهما السَّابِق مِن المُمكن العُثور عليه فَقَط بين البَقايا الأحفوريَّة..”[1]
هَكَذا علَّق دارون صِحَّة نَظَريَّته بوُجود تلك الحَلَقات الوَسيطة، الَّتي يُمكن العُثور عليها “فقط” في السِّجل الحَفري. لكن الحَقيقة الَّتي أقرَّ بها وتعجَّب لها دارون نفسه هي عدم وُجود تلك الأشكال مَطمورة – وبأعداد لا تُحصى – في القشرة الأرضيَّة!
وعلَّل ذلك “بأن الإجابة تنحصر بشكل أساسي في كَون هذا السِّجل هو أقل كَمالاً بشكل فائق مما هو مِن المَفروض أن يكون عليه على وجه العُموم. فإن القِشرة الخاصَّة بالأرض ما هي إلا مَتحف هائِل ولَكِن مَجموعات التَّاريخ الطَّبيعي قد تم إعدادها بشكل غير مُستكمَل، وذلك على مَدى فَتَرات مُتباعدة مِن الزَّمن فقط.”[2]
فهو يعقد الآمال أن تُكتشف تلك الضُّروب المُتوسِّطة عندما يُستكمل السِّجل الحَفري بالشَّكل الكافي.
وإن كانت تلك حُجَّته، فقد مضى ما يزيد عن القرن، سعى فيه أنصار التَّطوُّر للكَشْف عن تلك الحَلَقات المَزعومة في شَتَّى بقاع الأرض، لكنَّهم عجزوا كُل العَجز عن تأكيد نَظَريَّتهم مِن خلال السِّجل الحَفري.
يقول عالِم الحَفْريَّات روبرت كارول: ” على الرَّغم مِن مرور ما يزيد عن مائة عام على جُهود الجَمع الكَثيفة مُنذ وفاة دارون، إلا أن السِّجل الحَفري مازال لا يُعطي صورة عن تلك الحَلَقات الاِنْتِقاليَّة مُتناهية العَدَد، الَّتي توقَّعها.”[3]
بل إن عَمَليَّات البَحث كشفت عن حقيقة هامَّة، فقد ظَهرت شُعب الحَيوانات المَوجودة اليوم في الوقت نفسه، وذلك في مُنتصف الحُقبة الجيولوجيَّة المعروفة بالعَصْر الكَمْبري، والَّتي تمتد لنحو 65 مِليون سنة (مِن 570 : 505 مِليون سنة تقريبًا). وتُعرف تلك الفترة بالاِنْفِجار الكَمْبري (CambrianExplosion). و “الظُّهور المُفاجئ” لا يَنفي فقط أن تكون تلك الكائنات قد مَرَّت بمَراحِل تَطوُّر، بل يؤكِّد حَقيقة أن الكائِنات مَخلوقة خَلْقًا مُباشِرًا.[4]
راجِع المَقال : نَظَريَّة التَّطوُّر: نَظْرَة تاريخيَّة
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست