دائمًا ما نسمع عن النقاش التقليدي حول التغيير، هل يبدأ التغيير من أعلى الهرم، أم من قاعدة الهرم؟ هل علينا أن نبدأ بتربية الأجيال وتوعية المجتمع وإصلاح الأفراد، وهذا حتمًا سيؤدي في آخر المطاف إلى تغيير المنظومة كاملة؟ أم علينا أن نسعى لتغيير رأس الهرم وإصلاحه من حكام ومسئولين، فإذا فعلنا ذلك فالقوم على ملة سيدهم؟ وهو سؤال وجيه ومهم للبدء بالتغيير والإصلاح. ولكنه ليس موضوعنا هنا؛ فموضوعنا هنا يدور حول اللبنة الأساسية والمركزية في التغيير، سواء كان من أعلى الهرم أو من قاعدته.
الإنسان كائن معقد جدًا، يصعب علينا فهم الخوارزميات التي يسير عليها؛ فالكمبيوترات والآلات والروبوتات مبرمجة لأداء أمر معين، يتفاوت في التعقيد من أمر مباشر (DO) الى أوامر أكثر تعقيد مثل التخيير (IF – THEN) أو الحلقات (LOOP)؛ فمهما كان تعقيد هذه الأوامر، فهي لا تخرج عن إعطاء الحاسب أمرًا معينـًا محددًا يسير عليه؛ ففي أعقد الأوامر، يتم إعطاء الأمر للآلة أن تقارن مثلاً بين عدة خيارات لتختار منها الأفضل، حسب المعطيات الموجودة لديها في قاعدة بياناتها وحسب المعلومات الموجودة لديها، وهذا ما أسميه تخييرًا جزئيًا.
أما الإنسان، فيختلف عن هذا الأمر؛ فالله خلقه مخيّرًا، والتخيير الذي للإنسان تخيير كامل، وليس تخييرًا جزئيًا كما في الآلات؛ فالإنسان بإمكانه التصرف بعشوائية مطلقة غير مبنية على أية قاعدة، بينما الآلة وإن كانت ذات برمجة متقدمة، فهي لن تستطيع الخروج عمّا بُرمجت عليه.
هذا ما يميّز الإنسان، وهذا ما يثبت عظمة خلق الله سبحانه وتعالى وإتقانه، بأن جعل الإنسان مخيرًا بشكل كامل تمامًا، وبناءً على هذه الحرية المطلقة يحاكم الإنسان على اختياراته، فإما شقي وإما سعيد.
نعود الآن لموضوعنا الأساسي، كيف يمكن تغيير هذه اللبنة الأساسية في أي مجتمع؟ هل يمكن أن نجبر الإنسان على التغيير؟ أو أن نغيره من الخارج؟ أن نهيئ له أسباب التغيير؟ وإلا فكيف هو سبيل التغيير؟!
لو تأملنا في النفس الإنسانية التي خلقها الله سبحانه، سنجد أن أية محاولة للتغير من الخارج عبث! نعم عبث، ما لم يكن هناك تغيير من الداخل، ما لم تكن هناك إرادة داخلية للتغيير، بمعنى آخر، مفتاح التغيير يكمن في داخل كل شخص فينا.
فهذا أبو طالب، عم الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان من أكبر مناصري سيدنا محمد، ووقف معه في محنه، ولكنه لم يرغب بالإسلام، حتى حين اقترب أجله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بجانبه، وكفار قريش أيضًا، وبقي يدعوه سيدنا محمد للإسلام، ثم اختار الكفر وهو بكامل قواه العقلية.
في هذا الموقف نزلت آية {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} حيث قد نفهم منها (وهو وجه يصح لغويًا) أن المشيئة في الآية عائدة إلى العبد، أي أن الله لن يهدي عبدًا، ما لم يطلب العبد الهداية من الله سبحانه وتعالى.
من هذه الحادثة، نرى أن التغيير لا بد أن يكون من الداخل، ولن ينفع أي عمل من الخارج، ولن يغير أي شيء. ولذلك ربما جاء في القرآن الكريم قوله سبحانه }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ {، فلا طائل من وراء إكراه أي شخص على اتباع ملة أو الاقتناع برأي، فالقناعة والإيمان لا يتمان سوى بأمر داخلي من النفس، لا بعوامل خارجية.
إننا نرى الفاتحين الأوائل، كانوا يدخلون البلاد فيدعون أهلها للإسلام، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولو فرضنا جدلاً أنهم كانوا يجبرون الناس على اعتناق الإسلام، لأصبح هؤلاء منافقين، يظهرون الإسلام خوف البطش ويضمرون كفرهم وكرههم، وهذا سيعارض الهدف الأساسي من الفتح والجهاد، وسينعكس سلبًا على الإسلام ويضره.
إذن، إن كان التغيير لا يتم إلا من الداخل، فما هو دورنا ونحن جميعنا عوامل خارجية؟
من مشاهدتنا، نلاحظ أن الإعلام يسيطر على أفكار الناس ومعتقداتهم وآرائهم، ولكن كيف تم هذا؟ أوليس الإعلام عنصرًا خارجيًا أيضًا؟
بلى، ولكن الإعلام لا يلقن المشاهد ما يريد إيصاله له، بل يبث له الأفكار داخل قوالب متعددة، من مشاهد كوميدية، أو دراما، أو رسم وفن وإبداع، وغير ذلك من قوالب الأفكار هذه.
كثير منا يظنون أن الإعلام هدفه المتعة فقط، أو التسلية وتمضية الوقت، ولكن فعليًا، كم من إشارة خفية وجدت داخل فيلم كرتون للأطفال؟ وكم من فكرة دخيلة زجت إلينا في مسلسل عربي رمضاني؟ الإعلام مثل الإبرة الدقيقة، لا يشعر أحد بوخزته، ولكنه يخترق أنفسنا إلى أعماقنا فيقذف فيها ما شاء وما أراد، بلا أي شعور منا.
فالعقل الباطن يتلقى من الإعلام دروسًا كثيرة ربما لا يعيها العقل الواعي. وقد تكون هذه الدروس ناتجة عن إشارات بسيطة دقيقة لا يلقى لها بالاً، مثل لون معين يتكرر في عدة مشاهد، أو اسم إحدى الشخصيات، أو تكرار رمز معين في مواطن محددة. كمثال، في مسلسل 24، والذي يتمحور حول الشرطي الأمريكي جاك باور الذي يعمل في مكافحة الإرهاب، نرى في أكثر من موسم أن الإرهابيين مسلمون، أو يحملون أسماء عربية أو إسلامية، وكذلك في فيلم “القناص الأمريكي” الأخير، حيث نرى أنه جعل القناص السفاح السفاك، بطلاً للفيلم! وهناك العديد من الأمثلة التي لا تنتهي، عن كيفية خلق “صور نمطية” لشعب أو ديانة أو أيديولوجية، لن نفصل فيها هنا، وبإمكانكم البحث عنها أكثر.
في المقابل نلاحظ ضعف الخطاب التلقيني المباشر، وقلة أثره على الشباب. فالخطاب التلقيني خطاب خارجي، لا يؤدي مفعوله إلا إذا تفاعل معه العامل النفسي الداخلي. فمن الطبيعي ألا يريد أحد أن يطبق ما يقال له وما يلقن، بل يريد أن يستشعر بالحرية وبالاستقلالية. وهذا هو سر فعالية الإعلام والدراما والكوميديا على تغيير الأفراد، أكثر من الخطاب الدسم المباشر.
وختامًا، أظن أن لدينا مشكلتين ينبغي لنا أن نصححهما، أما الأولى فهي أننا في دواخلنا لا نريد أن نتغير، وكثير منا لا يهمهم الأمر ما داموا يمتلكون المال وسبل الحياة، فهم في وادٍ والأمة في وادٍ. وطالما أننا لم نقتنع داخليًا ولم نبدأ بالسعي لأجل ما نقتنع به، فلن نتقدم أو نتبدل أبدًا، فالشرط الأول كما أسلفنا للتغيير هو “حتى يغيروا ما بأنفسهم”. أما الثانية فهي أن الإعلام الإسلامي يتبنى غالبًا الخطاب المباشر، سواء أكان وعظيًا أم علميًا، فهو يقتصر في أغلب الأحيان على الحديث المباشر الذي قد يصطدم أحيانًا بقناعات المشاهد فلا يؤدي إلى أية نتيجة.
فما نحتاجه اليوم، هو أن نعرف كيف نتعامل مع دواخل الناس، وكيف نشجعهم على تغيير أنفسهم، سواء عن طريق الإعلام أم غيره. فإن وصلنا لذلك، تغير المجتمع تلقائيًا، شئنا أم أبينا، من أسفل الهرم أو وسطه أو أعلاه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست